مسار “تنمية التخلف” في موريتانيا: التقدّم إلى الخلف

من الأمثال المتداولة في الثقافة الموريتانية: “أعش ولد محمدي أهون من قتله”، أي أن ضيافة رجل أهون من ارتكاب جناية القتل لما يترتب عليها من عواقب وخيمة. ويمكن إسقاط هذا المثل على التوجيه الرئاسي الأخير، الذي دعا المسؤولين العموميين إلى الامتناع عن السفر إلى الخارج، بحجة أن ذلك قد يُفضي إلى مزيد من تبديد المال العام.
إن هذا التوجيه، في جوهره، لا يعالج أصل الإشكال، بل يكتفي بإزاحة سطحية للأعراض؛ إذ كان الأجدر بالسلطة أن تتجه نحو معالجة مكامن الفساد البنيوية، من خلال فرض الرقابة والمحاسبة على المال العام، ومحاكمة من تورّط في نهبه. حينها فقط يمكن للمسؤولين أن يتحركوا بحرية، في ظل احترام القانون، الذي يكفل أصلاً حق التنقّل لكل المواطنين دون تقييد.
وبالتأمل في أبعاد هذا التوجيه أو الطلب الأخير، نجد أنه غير وارد أصلًا:
1: مخالفة دستورية صريحة.
يناقض هذا التوجيه أحكام الدستور الموريتاني، الذي ينص بوضوح على ضمان الحريات المدنية، وعلى رأسها حرية التنقّل والإقامة، والتي لا يجوز تقييدها إلا بموجب قرار قضائي نافذ. وبذلك، فإن محاولة قصر سفر المسؤولين تُعدّ إجراءً خارج الأطر القانونية، وتؤسس لممارسات قد تُستغل سياسيًا أو إداريًا بشكل تعسفي.
2- تعزيز ثقافة الوشاية والنفاق.
من شأن هذا النوع من التوجيهات أن يرسّخ أجواء الشك والاتهام، ويغذي الشائعات والممارسات غير السليمة في إدارة الشأن العام؛ إذ قد يُبلّغ عن أي موظف يسافر للخارج، مهما كانت دواعي سفره، سواء للعلاج أو لحضور منتدى علمي أو نشاط رسمي، مما يكرّس ثقافة الوشاية، ويفتح الباب أمام التصنيف التعسفي للمواطنين والمسؤولين.
3: افتقار الداخل للبنية السياحية.
إذا كان من بين أهداف هذا التوجيه تشجيع السياحة الداخلية، فإن اغلبية مناطق الوطن تفتقر للحد الأدنى من المقومات الضرورية لتحقيق هذا الغرض. فالعاصمة نواكشوط نفسها تعاني من انقطاعات متكررة في خدمات الكهرباء والماء، فضلًا عن غياب بنى تحتية سياحية مقبولة، فما بالك بالمدن الداخلية التي تفتقر إلى المرافق الأساسية، وتغرق في القمامة، وتُدار من قِبل مسؤولين محليين يقضون جل وقتهم في العاصمة، دون حضور فعلي في مناطقهم.
4:تحول السياحة الداخلية إلى عبء على السكان بدلًا من دعم الاقتصاد.
لا تساهم هذه التوجيهات في تنشيط الدورة الاقتصادية الداخلية، بقدر ما ستُلقي بأعباءً إضافية على المواطنين، خصوصًا في المناطق التي تفتقر إلى خدمات الضيافة الفندقية. ففي الثقافة المحلية، تُعد الضيافة مسؤولية اجتماعية تؤدَّى في البيوت، مما يعني أن السكان سيتحمّلون عبء استقبال المسؤولين من مواردهم الشحيحة، وهو ما يزيد من هشاشتهم الاقتصادية
5: خطر على الحق في العلاج.
لا يُمكن إغفال أن جزءًا من المسؤولين، كغيرهم من المواطنين، يضطرون إلى السفر للعلاج خارج البلاد، نظرًا لهشاشة النظام الصحي المحلي، ونقص الخدمات التخصصية. وعليه، فإن هذا التوجيه قد يمنع البعض من السفر الضروري، بدافع الخوف من العقوبة أو النفاق السياسي، مما قد يهدّد سلامتهم الصحية.
هذه التوجيهات، تذكرنا بحقبة وسياسات الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، التي مضى عليها أكثر من عشرين سنة، وأثبتت فشلها في حينها؛ وذلك ما أكده رفيق دربه؛ الرئيس الراحل اعلي ولد محمد فال – رحمه الله – بالقول: "موريتانيا اليوم أشبه ببقالة كل البضاعة والمواد الموجودة بها منتهية الصلاحية”، في إشارة إلى سوء أوضاع البلاد وقت استلامه السلطة بعد انقلاب 3 أغسطس 2005.
فكيف نعيد العمل بقرارات من عهدٍ أثبت فشله وانتهت صلاحية سياساته .؟
إن إحياء هذا النوع من القرارات الفاشلة لا يوازيه إلا تنظيم مهرجانات حاشدة في العاصمة للحديث عن “الإنجازات” في بلدٍ تعتبر المياه والكهرباء في عاصمته عملة نادرة . ويتردّى فيه التعليم، وتتراجع فيه الخدمات الصحية، وتنعدم فيه العدالة، وتنتشر في عاصمته عصابات الجريمة.
نحن في موريتانيا لا نتقدم، بل نتقهقر؛ لا نبتكر سياسات جديدة، بل نعيد إنتاج سياسات الفشل نفسها التي تم اتباعها سابقًا، وبنفس الطريقة؛ أي أن مسار التخلف هو الذي يسير… عبر التقدّم إلى الخلف.
ورغم ذلك، يُطلب من الجميع الحديث عن “الإنجازات”، وتُنظَّم مهرجانات حاشدة في ملعب شيخا ولد بيديا، وكأننا في عرس وطني، بينما يُعيش المواطن في بؤس شامل ويحاصره اليأس والإحباط، حيث يعاني ثلث السكان من الجوع.
تقول الحكمة: “إذا عُرف السبب بطل العجب”؛ فالنظام الذي حكم موريتانيا خلال العقود الماضية هو نفس النظام؛ فالذي أُطيح به يوم 10 يوليو 1978، كان مجرد رأس النظام، الرئيس الراحل المرحوم المختار ولد داداه، أما الممارسات فقد استمرت، وأعضاء حزب الشعب أعادوا تنظيم صفوفهم تحت عباءة هياكل تهذيب الجماهير، والذي أُطيح به يوم 3 أغسطس 2005؛ شخص الرئيس معاوية ولد الطايع وبقي نظامه بكامل أركانه؛ وتم إضفاء ثوب جديد على النظام الجديد القديم؛ عبر تغيير اسم الحزب الجمهوري، ليتحول إلى حزب عادل، ليتم تغيير جلده في عهد حكم ولد عبد العزيز؛ باسم الاتحاد من أجل الجمهورية.
لكن تداول السلطة بشكل سلمي عام 2019؛ لم ينتج عنه ميلاد نظام جديد؛ بل رحل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وبقي نظامه؛ في ثوب حزب الإنصاف.
بالتالي، فكل مرحلة يتم التغيير فيها لكي لا يحصل تغيير في موريتانيا؛ لنستمر مع نفس النظام في الجوهر، وبنفس الأشخاص ونفس الخطابات، ونفس المهرجانات؛ لتستمر نفس أدوات الحكم ونفس ممارساته؛ والدليل على ذلك ممارسات حزب الإنصاف اليوم، التي هي تكرار واستنساخ لنفس أحزاب السلطة المتعاقبة؛ وكأن الزمن توقف بالنخب السياسية في موريتانيا، التي لا تُبدع إلا في إعادة إنتاج الفشل وتكريس الفساد.
في الخلاصة:
بدل أن تقوم النخبة الموريتانية بإعلان الحرب على الفساد والتخلص من السياسات العمومية القاصرة التي أنتجت هذا الواقع البائس؛ بتقديم استراتيجيات واعية وتعمل على تأسيس إدارة كفوءة وفعالة؛ فإنها تبقى تتفرج على واقع البؤس الذي يعيشه الشعب الموريتاني في وضعه الراهن؛ بل إنها تحتفل في مهرجانات حاشدة بفشلها.
الدكتور ديدي ولد السالك