السبت
2025/10/11
آخر تحديث
السبت 11 أكتوبر 2025

غزة والموريتانيون: وحدة الألم والكرامة

منذ 3 ساعة
غزة والموريتانيون: وحدة الألم والكرامة
لمرابط ولد لخديم
طباعة

عندما عمّ الفرح شوارع غزة بعد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار، تردّد صداه في نواكشوط كما لو كانت المدينتان على موعدٍ واحد مع الفرح ذاته. فالموريتانيون الذين تابعوا الحرب لحظةً بلحظة، عاشوا الألم الفلسطيني كأنه وجعهم، وتفاعلوا معه كأنه جزءٌ من ضميرهم الجمعي.
في تلك اللحظات، تجسدت الأخوّة في أنقى صورها؛ إذ تنافست القبائل والعائلات في موريتانيا لدعم غزة في حملةٍ غير مسبوقة جمعت مئات الملايين، حتى إنّ بعض الناس باعوا ماشيتهم، ونساءً باعن حُليّهن تضامنًا مع المقاومة — في مشهدٍ أبهر العالم وأعاد إلى الأذهان معنى التضامن العربي والإسلامي حين يكون صادقًا.

من نواكشوط إلى غزة… جسور الروح والموقف
لم يقتصر التضامن على المدن الكبرى، بل امتد إلى القرى والبوادي والمحاظر.
في بعض المحاظر مثل تندوجه — وهي من الجامعات الأهلية التي تُدرّس العلوم الشرعية — كان أحد الشيوخ يقدّم يوميًا أخبار غزة للمصلين بعد الصلوات وقبل الدروس، يزرع في طلابه ومرتادي المسجد روح الوعي والإيمان بالقضية.
بل حتى المدوّنون، حين حُذفت صفحاتهم من “فيسبوك”، واصلوا الكتابة باللهجة الحسانية، فحوّلوا الألم إلى لغةٍ محلية نابضة بالعزّة والانتماء. كانت الكلمة في تلك الأيام سلاحًا لا يقل أثرًا عن البندقية، وأصبح التدوين الحساني بيانًا للكرامة في وجه الرقابة الرقمية.

غزة في مرآة التاريخ
قبل الخوض في تفاصيل الحرب الأخيرة، لا بدّ من التذكير بأن غزة كانت عبر التاريخ مقبرةً للغزاة.
منذ التتار الذين اجتاحوا المشرق والمغرب وأسقطوا الخلافة العباسية، فانكسرت شوكتهم على أرض غزة على أيدي قطز وبيبرس، مرورًا بـصلاح الدين الأيوبي الذي طهّرها من الصليبيين، وصولاً إلى الاحتلالات الحديثة التي عجزت عن إخضاعها رغم آلة الدمار.
ولعل ما قاله شمعون بيريز يومًا يلخّص رهبة العدو من هذه المدينة الصامدة:
«يا ليتني أغفو وأصحو على غزة وقد ابتلعها البحر».
لكن غزة لا تبتلعها البحار، لأنها وُلدت لتكون ضمير الأمة وذاكرتها المقاومة.

غزة اليوم: ملحمة الصبر والإيمان
على مدى عامين من الحرب، قدّمت غزة نموذجًا نادرًا في التاريخ الحديث لصبر الشعوب وإيمانها.
وقد شاهد العالم على شاشات الجزيرة القطرية، منذ الأيام الأولى للحرب، مشاهد البطولة والفداء، بينما فقدت القناة عشرات الصحفيين الذين قضوا في سبيل نقل الحقيقة.

كيف لإنسانٍ فقد والديه وأطفاله أن يقف أمام الكاميرا قائلاً: «حسبنا الله ونعم الوكيل»؟
وكيف يُردّد آخر: «يا رب خذ من دمائنا حتى ترضى»؟
أولئك هم الذين صدق فيهم قوله تعالى:
مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب: 23).
ورغم ذلك، ما زال بعض الكتّاب والمدونين يحمّلون المقاومة مسؤولية الدمار، وكأنهم بذلك يبرّرون وحشية الاحتلال!
فهل يُلام من يدافع عن أرضه، أم من يحتلّها ويقتل أبناءها؟
قبل السابع من أكتوبر، كانت القضية الفلسطينية غائبة عن نشرات الأخبار، وموضوعة على هامش الاهتمام الدولي.
لكن بعد السابع من أكتوبر، أعادت دماء الشهداء وبسالة المقاومين القضية إلى الواجهة، وأعادت بوصلة التاريخ إلى مسارها الصحيح.
اليوم، من كانوا يسعون إلى إقصاء المقاومة يجلسون معها على طاولة المفاوضات.
لقد أدرك العدو — قبل غيره — أن النصر لا يُقاس بعدد الشهداء، بل ببقاء الفكرة حيّة،
وأن الحرية لا تُقاس بالعمر، بل بما يُورّث منها للأجيال القادمة.
نعم، كانت الكلفة باهظة في الأرواح والعتاد، لكن العدو خسر صورته عالميًا، بينما كسبت المقاومة الشرعية الأخلاقية والسياسية.
لقد أثبت التاريخ أن لا حرية بلا تضحية، وأن من يلوم المقاومة إنما يبرّر الجريمة ويُخمد صوت المظلومين.

عبارة تختصر المشهد
العبارة التي قالها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنتنياهو — «إسرائيل لا تستطيع محاربة العالم كله» — تختصر المشهد بأكمله.
فبعد عامين من حربٍ دامية، وجدت تل أبيب نفسها أمام جبهةٍ كونية من الرفض السياسي والأخلاقي، وعجزٍ عسكريٍ متزايد، وانهيارٍ في صورتها الدولية.

وهكذا انتهت الحرب… لكنها بدأت من جديد في ضمير الأمة، لتؤكد أن قضية فلسطين ليست جغرافيا، بل عقيدة وهوية.

وكأننا نردد مع نزار قباني:
«سيروا إلى غزةَ، فالتاريخ يُكتَب هناك،
والكرامةُ تُغسَلُ بدماء الأطفالِ والشهداء».
https://youtu.be/xCgxZ2uxl_c?si=aecRZ3pMy-YRZzRY

لمرابط ولد لخديم