الخميس
2025/10/9
آخر تحديث
الخميس 9 أكتوبر 2025

قطاع الصيد بين الحاجة إلى إعادة التقييم واستعادة الثقة

منذ 12 ثانية
قطاع الصيد بين الحاجة إلى إعادة التقييم واستعادة الثقة
طباعة

إنّ قراءة المشهد الحالي لقطاع الصيد الوطني لا يمكن أن تتمّ إلا من خلال أدوات تقييم موضوعية وشاملة، تُمكّن من وضع القطاع في مساره الصحيح واستعادة قدرته على المساهمة الفعلية في الاقتصاد الوطني.
فما نعيشه اليوم ليس مجرّد أزمة ظرفية، بل خلل بنيوي عميق يعكس غياب قواعد ثابتة ومرجعيات استراتيجية واضحة يمكن الارتكاز عليها في رسم السياسات واتخاذ القرارات.

لقد ظلّت الاستراتيجيات المتعاقبة تُعلن عن أهداف طموحة، لكن دون قاعدة علمية أو مؤسسية تُسندها، فغابت الرؤية المتكاملة التي توازن بين الاستغلال والاستدامة، وبين الربح الآني والمصلحة الوطنية طويلة المدى. والنتيجة أن القطاع يتحرك منذ سنوات في اتجاهات متناقضة، تُدار أحيانًا بالمجاملات، وأحيانًا تحت ضغط اللحظة السياسية أو الإكراهات الاقتصادية، دون أن يُبنى على رؤية وطنية جامعة.

من هنا تأتي ضرورة إعادة التقييم، لا باعتبارها خطوة شكلية، بل كخيار استراتيجي لإعادة تعريف أولويات القطاع وتحديد موقعه ضمن المنظومة الاقتصادية الوطنية. هذه المراجعة يجب أن تشمل السياقين الاستراتيجي والظرفي معًا، لأنّ غياب هذا التمييز هو ما جعل المبادرات السابقة تدور في فراغ مؤسسي لا يسمح بالاستمرارية ولا بتحقيق نتائج ملموسة.

لقد تعاقب الوزراء وتبدلت الخطط، لكن الخلل في البنية المؤسسية ظلّ قائمًا. فلا توجد اليوم رؤية استراتيجية طويلة المدى تحكم السياسات، بل سلسلة من القرارات المتقطعة التي تفقد معناها مع كل تغيير في القيادة. وهذا ما جعل القطاع يعيش حالة عدم استقرار مزمنة، انعكست سلبًا على أدائه، وعلى الثقة بين الفاعلين المهنيين والسلطة الوصية.

الوزير الجديد، أياً كان طموحه أو كفاءته، سيجد نفسه أمام إرث ثقيل: أزمة ثقة، تراجع في مؤشرات الأداء، منظومة قانونية هشّة، وهيمنة متزايدة للوبيات أجنبية استطاعت أن تفرض نفوذها الاقتصادي عبر ثغرات تنظيمية وإدارية، مستفيدة من غياب رؤية وطنية متماسكة.

وفي المقابل، ما يزال الوعي الوطني بأهمية بناء اقتصاد بحري قائم على القدرات الوطنية ضعيفًا، وكأنّ الثروة البحرية مورد لا ينضب. والحقيقة أن البحر لم يعد كما كان، وأن الاستنزاف المفرط وغياب الرقابة العلمية الجادة جعلا من استدامة المخزون تحديًا وجوديًا لا قطاعيًا فحسب.

لهذا فإن المرحلة الراهنة تتطلّب قراءة متأنية وواقعية للمشهد، تُحدّد بدقة الأدوات التي يجب اعتمادها لإعادة بناء القطاع على أسس متينة، وفي مقدمتها:
1. إعادة هيكلة منظومة الحوكمة بما يضمن الشفافية والمسؤولية ويفصل بين القرار السياسي والتقني.
2. تعزيز القدرات البحثية والعلمية لتوفير بيانات موثوقة حول حالة المخزون البحري واتخاذ القرار بناءً على معطيات واقعية لا تقديرات نظرية.
3. تحصين الإطار القانوني والتنظيمي ضد الاختراقات والضغوط الخارجية، وضمان أن تكون الاستثمارات الأجنبية مكمّلة للقدرات الوطنية لا بديلًا عنها.
4. إطلاق حوار وطني شامل ومسؤول يشارك فيه المهنيون والباحثون والفاعلون الاقتصاديون حول مستقبل القطاع، لتتحول الإصلاحات من قرارات فوقية إلى توافقات وطنية راسخة.

فمن دون هذه الأدوات، ستظل الجهود متناثرة، والقرارات ظرفية، ويبقى القطاع رهينة توازنات مؤقتة لا تصنع تنمية ولا تحفظ الثروة.
إنّ إصلاح قطاع الصيد ليس ترفًا إداريًا ولا شعارًا سياسياً، بل ضرورة وطنية تتعلق بالأمن الغذائي، وبالسيادة الاقتصادية، وبحقوق أجيال قادمة في ثروة هي ملك للجميع.

ولذلك فإن المطلوب اليوم إرادة حقيقية في التقييم والمساءلة، وجرأة في اتخاذ القرار، وشجاعة في مواجهة مراكز النفوذ التي حولت البحر من مصدر رزق إلى مجال نفوذ. فبدون هذه المقاربة الشجاعة، سنظل نُعيد صياغة ذات الخطاب، فيما يستمر البحر في فقدان ذاكرته الحيّة ويفقد الوطن أحد أهم روافده الحيوية.
الاتحادية العامة للصيد FGP