جديد: دين الفطرة؛ استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة انسانية
"دين الفطرة": محاولة لإعادة تأسيس العلاقة بين العقل الكوني والوجدان الإنساني
بقلم: د. عبد الجبار الرفاعي مفكر عراقي.
مؤسس مجلة قضايا إسلامية معاصرة
يمثّل كتاب "دين الفطرة: استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة إنسانية" منعطفًا معرفيًا في مسار الكتابات الإسلامية المعاصرة التي تبحث عن توليفة عقلية-روحية بديلة عن الجمود النصي أو التبعية الوضعية. المؤلف ينتمي إلى مدرسة فكرية نادرة تسعى إلى بعث الروح في المفاهيم العلمية الجافة، وإلى تفكيك الميتافيزيقا العلمية المضمرة التي تسكن خلف ستار "الحياد التجريبي".
بين العقلانية العلمية والفطرة الميتافيزيقية:
ينطلق المؤلف من فرضية أن المعادلات الرياضية ليست محايدة، وأنها تختزن في صمتها رموزًا لفهم الوجود، يمكن استنطاقها من منظور يتجاوز العَين إلى البصيرة. هذه الفرضية، وإن بدت مثالية للبعض، تنبع من تقليد طويل في الفكر الإسلامي يرى في اللغة والعدد امتدادًا للخلق، لا مجرد أدوات وصفية.
الفكرة المحورية في الكتاب أن "الفطرة" ليست مجرد نزوع أخلاقي أو وعي ديني غامض، بل هي "نظام معرفة" أسبق من التجربة، وأعمق من الحس، وبه تُقوَّم العلوم وتُوجَّه التكنولوجيا. إنها باختصار "العقل الوجداني" الذي فقده الإنسان الحديث حين أبدل الإيمان بالملاحظة، والرحمة بالمنفعة.
مفارقات فلسفية:
استحضار المفارقة داخل اليقين: الكتاب لا يقدم أجوبة قطعية بقدر ما يثير أسئلة حرجة حول علاقة الإنسان بالكون، وهي نقطة تميز عن كثير من كتب الرد على الإلحاد. هنا لا نجد العداء التقليدي بين الإيمان والعلم، بل جدلية وجودية تسعى لتجاوز القطبية.
اللغة بوصفها كونًا ثانيًا: في إعادة اعتبار اللغة كأداة إدراك كوني، يلامس المؤلف أطروحات فتجنشتاين المتأخرة، لكنه يتجاوزها إلى أفق قرآني، يرى في الكلمة أثرًا ماديًا وروحيًا في آن. هذا العمق في النظر اللغوي جدير بأن يُبنى عليه مشروع معرفي مستقل.
نقد الحداثة دون السقوط في خطاب الرفض: المؤلف لا يهاجم الحداثة، لكنه يفككها من الداخل، مبرزًا تمركزها حول "الإنسان الأداتي"، وينتصر في المقابل لـ"الإنسان العابد"، لا بمعناه الشعائري بل بوصفه كائنًا ذا غاية تتجاوز التراكم واللذة.
بعض التحفظات:
التركيب الفلسفي أحيانًا يتجاوز القارئ العام، وربما كان من الأنسب اعتماد هوامش تفسيرية أو ملحقات مفهومية لبعض المصطلحات المجازية أو الاستعارات الفلسفية.
غياب الإحالات الفلسفية الدقيقة في بعض المواضع يجعل بعض القضايا وكأنها اكتشافات جديدة، مع أنها مطروحة منذ قرون في التراث الإسلامي والفلسفي.
خاتمة:
"دين الفطرة" ليس مجرّد ردّ على الإلحاد أو دفاع عن الدين، بل هو محاولة لبناء خطاب معرفي جديد يتوسّط بين العلمانية الشاملة والتديّن المغلق. وهو دعوة للتصالح بين القلب والعقل، بين لغة الله المكتوبة في الكون ولغته المنطوقة في الوحي.
بقلم: د. عبد الجبار الرفاعي مفكر عراقي - مؤسس مجلة قضايا إسلامية معاصرة



