الإصلاح الانتقائي لا يصنع مجتمعًا سلميًا
نعم نحن فعلًا بحاجة إلى تنظيم عام للحياة الاجتماعية،
لكن هذا التنظيم لا يمكن أن يبدأ من القاع ويُغفل القمة، ولا أن يُوجَّه نحو الفقراء والمهمشين بينما تُستثنى بؤر الفساد المحمية بالنفوذ والسياسة والقبلية والمال.
لا تُلقوا فُتات المال في جدران مغلقة طربًا على فنان يردد مآثر أو شيم لمجتمع سابق أو يشيد بمكارم أخلاق أو كرم ، وانفقوا أموال التأمين أو تهريب الذهب أو جمع الضرائب أو اختلاس القروض الدولية أو الاحتواء على ميزانيات المرافق الحكومية والمشاريع الموجهة للمجتمع أو رشاوي ضخمة على هامش صفقات ضارة بالمستهلك والدولة أو بالشعب والمستقبل في الكازينوهات والملاهي والفنادق عالية التصنيف ، وشراء الفلل الفاخرة في الخارج، كي لا يطالكم أي قرار يُتخذ باسم تنظيم الأخلاق العامة.
– ازدواجية المعايير
في خضم الحديث عن “تنظيم السلوك الاجتماعي”، يبرز سؤال جوهري:
هل يمكن للإصلاح أن يكون جزئيًا وانتقائيًا في مجتمعٍ تتشابك فيه مظاهر الخلل من القاعدة إلى القمة؟
إن ما يجري اليوم من قرارات متفرقة يثير تساؤلات حول مدى اتساقها مع واقعٍ مأزوم، يتعايش فيه الفقر المدقع مع البذخ المفرط، في صورةٍ صادمة للمجتمع والدولة معًا.
فبينما تُحاصر الفئات الضعيفة بذريعة حماية “صورة البلد”، تُترك مراكز النفوذ التي تُهدر فيها أموال الدولة في مأمنٍ من المساءلة.
كيف يمكن الحديث عن الأخلاق العامة في بلد تُنفق فيه مبالغ هائلة على الكازينوهات والرحلات والراحة الفاخرة، بينما يُضيَّق الخناق على المحتاجين باسم الذوق العام؟
كيف يُزعجنا جانب بسيط من الترف مرتبط بتراث المجتمع ، ويُترك النزيف الاقتصادي دون رادع؟
إن التنظيم الاجتماعي لا يُقام باحادية وانتقائية القرارات ، بل بعدالتها وشمولها.
فالقرارات الانتقائية التي تمس فئة محدودة دون غيرها لا تُنتج إصلاحًا، بل تُكرّس الفوارق وتُعمّق الإحساس بالظلم.
كان من الأجدر أن يُطرح مشروع إصلاحي شامل يعيد صياغة المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية على قاعدة المساواة والشفافية في البعدين الاجتماعي والتاريخي ، وحينها سيقول الجميع “نعم” لكل القرارات في إطارها الإصلاحي الشمولي.
المؤلم أن مظاهر الثراء السريع ما زالت تتكاثر في محيط السلطة، وأن بعض المسؤولين يتحولون بين ليلةٍ وضحاها من أناسٍ عاديين إلى أصحاب قصورٍ وسياراتٍ ومستوى معيشي فاخر، وسائرين في موضة البذخ والترف.
أليس من الأولى أن يُفتح ملف مصادر هذا الثراء بدل ملاحقة الفقراء والمهمشين؟
إننا لا نشكك في نية الرئيس للإصلاح، وأن مسلكه بنجوة من أي انتقائية، لكن المبادرات المبتورة لا تبني مجتمعًا متماسكًا، بل تُضعف الثقة العامة وتُعمّق الانقسام الاجتماعي.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من الأعلى، من الشفافية في المال العام، ومن محاسبة من يتلاعبون بمقدرات الناس، قبل الالتفات إلى الفقراء والمحرومين.
إن المجتمع لا يُصلح بالمنع وحده، بل بالعدل.
ولا يُحمى بالسلوك الظاهري، بل بالقيم التي تضمن لكل مواطنٍ كرامته وحياته الكريمة.
– الإصلاح المتكامل
لقد آن الأوان لصياغة عريضة وطنية شاملة للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، تُعيد التوازن المفقود بين المسؤولية والحرية، وبين الأخلاق العامة والعدالة الاجتماعية.
فمن دون عدالة، لا إصلاح. ومن دون إصلاحٍ شامل، لا استقرار حقيقي ولا حياة اجتماعية منظمة.
امنعوا كل مظاهر الفساد.
امنعوا استخدام إمكانيات الدولة التي يديرها جامعو الضرائب ومسيرو المال العام في السياسة.
امنعوا شراء ذمة الدولة بالقبلية والمصالح الشخصية.
امنعوا تهريب العملة الصعبة إلى الخارج من أجل القمار وشراء العقارات وملاحقة الموضة.
امنعوا أن يتحول وزير أو وزيرة بين ليلةٍ وضحاها من معدمٍ إلى صاحب قصرٍ وثروةٍ وسياراتٍ فارهة.
امنعوا أن نستيقظ كل يومٍ على فضائح مالية وخيانةٍ للأمانة دون عقابٍ رادع مع حماية قبلية أو عسكرية أو "نفوذاتية ".
امنعوا أولئك الذين كانوا في أزماتٍ حياتية ومالية من أن يصبحوا بقدرة المنصب من أثرياء البورصة والموضة والمسرح.
امنعوا الثراء الفاحش الطافح على زمرة العسكريين وأغلب من كانوا شركاء في السلطة !
امنعوا أن تسير الوفود القبلية لمؤازرة مفسدٍ معلوم الفساد لأن الدولة اطّلعت على خيانته!
امنعوا تهنئة القبائل والأفراد لشخصٍ عُيِّن على إدارة مرفقٍ عمومي،امنعوا ثم امنعوا ثم امنعوا …..، فكل ما تم ذكره سلوكٌ خاصٌّ بنا في طول العالم وعرضه!
وبعد ذلك — فقط بعد ذلك — امنعوا رمي النقود القليلة التي تُرمى طربًا أو تقديرًا للفن في الأماكن المغلقة كجزء من تراث اجتماعي ، يشترك معنا فيها كثير من شعوب العالم
من صفحة الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار




