زيارة الرئيس إلى كيفة.. هل هي العودة لما قبل خطابات الحوض الشرقي؟
تأتي زيارة الرئيس إلى كيفة في سياق الديناميكية الحكومية التي انطلقت مع المأمورية الثانية، والتي استهدفت توزيعًا أوسع للثروة، خاصة ضمن تصور تنموي داخلي، خُصِّص له إنفاق تجاوز 250 مليار أوقية في أكثر القطاعات ارتباطًا بالتنمية المحلية، ولا سيما المياه والزراعة والكهرباء والاتصال وغيرها. وهو ما من شأنه تغيير أوضاع السكان وتعزيز بقاء المواطنين في مناطقهم الأصلية، والتخفيف من الضغط على المدن الرئيسية في البلاد، مثل نواكشوط ونواذيبو، بما يفضي إلى خلق توازن وطني محلي أكثر استدامة.
أسلوب الزيارة
يعتمد الرئيس، في إطار تقليد يكاد لا يتغير، على الحشد الشعبي على الطرقات، يعقبه تنظيم مهرجان جماهيري ، والحقيقة أن هذا الأسلوب يضاعف من تعب المواطنين الذين يصطفون في الصباح على الطرق ويذهبون في المساء إلى المهرجان مع ما تكاليف الحشد ، وكان الأجدر التركيز على المهرجان وحده، لما له من أهمية، باعتباره الفضاء الأساسي للاستماع إلى خطاب الرئيس، ولِما يتيحه في الوقت نفسه من تقليص اللجوء إلى تعبئة الموظفين وأبناء العشائر، وما يرافق ذلك من اصطفافات قبلية، وتفعيل سطوة الواسطة عند الدولة ، وتغييب الأحزاب والفاعلين المحليين، بما يشكّل تراجعًا عمليًا عن جملة من القرارات الإصلاحية المفيدة في الشأن العام.
كما تتضمن هذه الزيارات لقاءات واجتماعات يحضرها، في الغالب، أشخاص قادمون من نواكشوط، ينافسون السكان المحليين في الحضور والمشاركة، وهو ما يقدّم صورة غير دقيقة عن واقع السكان، وحالتهم الاجتماعية، وطبيعة نسيجهم المحلي الحقيقي.
وإضافة إلى ذلك، تقوم بعض القطاعات الحكومية والإدارات بإجراء تحسينات ظرفية على وجه المدينة، من تعبيد طرقات أو تجميل واجهات، على مسار زيارة الرئيس، الأمر الذي يخلق انطباعًا مضلّلًا عن حقيقة الأوضاع المحلية . وهي ممارسات ينبغي أن تتغير إذا كانت الغاية من الزيارات هي الاتصال المباشر بالمواطنين، والاطلاع الصادق على أحوالهم، وتقييم أداء الحكومة، والخروج بتصورات واقعية تفضي إلى سدّ النواقص وتحقيق الإصلاح.
الأمور تظل على ما هي عليه
فبدلًا من أن يتفرغ مدير صوملك، مثلًا، وهو يدير شركة ترزح تحت أعباء مالية جسيمة وتحتاج إلى وقت وجهد مضاعفين، ويبقى مديري مؤسسات ورؤساء قطاعات وزارية ،في أماكن عملهم خاصة أنهم غير معنيين بالزيارة ، نراهم يُغلقون مكاتبهم للمشاركة في استقبال الرئيس والحشد له في إطار قبلي، رغم أن الرئيس أعلن صراحة إبعاد القبيلة عن السياسة، ومنع استغلالها سياسيًا، وإبعاد الأطر قسرًا وحصرًا عن هذه الممارسات.
فلماذا لا تتولى أحزاب الأغلبية والسياسيون هذه المهمة، فيحشدون للرئيس باسم أحزابهم، وبمقتضى دورهم السياسي والوطني، وخطابهم التعبوي، والتزامهم المعلن بدعم برنامجه وخياراته؟
ولماذا لا يكون التركيز على المهرجانات التي يلقي فيها الرئيس خطابات تمسّ المواطن مباشرة، بما تتضمنه من أخبار، والتزامات، وإيضاحات متصلة بالشأن العام، بدل الاستقبالات الشعبية المرهِقة والمفارِغة للمضمون؟
إن هذه الأحزاب بحاجة فعلية إلى النزول إلى الشارع، والاحتكاك بالمواطنين، والتفاعل معهم، واستعادة دورها الطبيعي. كما أن على السلطات الإدارية والمنتخبين أداء هذا الدور في إطار رسمي منظم، وهو أفضل بكثير من حشد يعيد إنتاج القبيلة، ويغذّيها، ويذكي نزاعاتها وصراعاتها أو الاصطفاف حولها، خاصة وأن الرئيس قد منع ذلك صراحة.
أعتقد أن الأمور ينبغي أن تندرج ضمن السياق العام للأفكار والتوجيهات الواردة في خطابات الرئيس، بما يحقق المواءمة الضرورية بين الأقوال والأفعال، ويتيح بناء القواعد، وتحقيق التراكم، والقدرة على التقويم والإصلاح. وإلا فإن المشهد سيظل يُنتج تناقضًا مملًا، كحال «تفلت الأعمى؛ يحفر هنا ويبصق هناك».
إن الأطر، والحكومة، والسلطات الإدارية، كلٌّ فيما يعنيه، مطالبون بالتقيد الصارم بتعليمات الرئيس وتطبيقها نصًّا وروحًا.
لقد شاهدنا في كيفة، كما في غيرها، جيوشًا من الموظفين وحشودًا قبلية في أول محطة بعد خطابات الرئيس الانعطافية في الحوض ، تلك الخطابات التي حملت بشائر تغييرات جوهرية تمسّ عمق الإشكالات التي تعيق تطور البلد، ولا سيما ما يتعلق ببناء دولة المؤسسات، حيث تتقوى مؤسسات الدولة والمؤسسات السياسية معًا.
إن استمرار هذه الممارسات يشكّل عائقًا حقيقيًا أمام التراكم الإيجابي المؤسِّس لنهضة وطنية، ويقوّض جدية الدفاع العقلاني ذي المصداقية عن تلك الخطابات والقرارات الكبرى والمصيرية للبلد، لأن الانقلاب عليها يكون سريعًا وواسعًا، ويفرغها من مضمونها قبل أن ترى طريقها إلى التطبيق.
فلنبدأ فعلًا
من صفحة الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار



