السبت
2025/11/1
آخر تحديث
السبت 1 نوفمبر 2025

المرابطون والمقاومة: التاريخ الذي حُوِّل إلى “لاتاريخ”

منذ 27 دقيقة
المرابطون والمقاومة: التاريخ الذي حُوِّل إلى “لاتاريخ”
طباعة

في موريتانيا يُتجاهَل التاريخ علنًا، خلافًا لما يجري في العالم. حتى الذين يقدّمون أنفسهم على أنهم زعماء يسلكون هذا النهج، بينما في الأمم الأخرى لا يمكن لأيٍّ كان أن يُعدّ زعيمًا وطنيًا ما لم يكن متشبثًا وفيًّا لماضي أمته ومحطّات تضحيتها.
المرابطون والمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي لا يمكن اعتبارهما من “اللاتاريخ”، لأنهما يمثّلان ذروة الفعل التاريخي في هذا الفضاء الجغرافي الذي تشكّل موريتانيا عمقه، من حيث الفعل والهوية والثقافة.
فـ”اللاتاريخ” هو حالة الفراغ أو التغييب المقصود، حيث لا يُكتب الحدث أو يُمحى أو يُختزل.
أما في الحالتين المذكورتين فنحن أمام فعلين تاريخيين مكتملين الأركان:
اللاتاريخ ليس غياب الحدث، بل إخفاء الوعي بالحدث.
والمرابطون والمقاومة ليسا من اللاتاريخ، لأنهما يشكّلان الفعل التاريخي الأصيل الذي أنجب الدولة والهوية والوعي الجمعي، بينما سقط في اللاتاريخ من تعمّد طمس هذه الذاكرة.
 أسباب الإنكار
من المفارقات المؤلمة في وعينا الوطني أن أكثر الحقَب إشراقًا في تاريخ موريتانيا — دولة المرابطين والمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي — هما الأقل حضورًا في المناهج الدراسية والبحوث والذاكرة الرسمية.
أما الذين لم يدركوا هذه الحقيقة، فلا يمكن وصفهم بالزعماء، بل بالرؤساء السابقين فحسب، ولا بالسياسيين الوطنيين بل بالطامحين إلى مصالح ذاتية، ولا بالأساتذة المخلصين للعلم بل بالملقِّنين.
فكيف لنا، والحالة هذه، أن نبني تربية وطنية، أو قواسم مشتركة، أو تاريخًا وتضحيات نجتمع حولها كمصدر للاعتزاز والإلهام والفخر؟
لقد جرى التعامل مع هاتين الحقبتين وكأنهما من “اللاتاريخ”، وكأن ما قدّمتهما من بطولات وتضحيات لا يليق بسرد الدولة الحديثة. غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك.

فالمرابطون، منذ تأسيس دولتهم سنة 1034م، شكّلوا أول تجربة وحدوية في الغرب الإسلامي جمعت بين الدين والسياسة والعمران.
نجح عبد الله بن ياسين وتلاميذه في توحيد قبائل الصحراء تحت راية الجهاد والإصلاح، فامتدت دولتهم من نهر السنغال جنوبًا إلى الأندلس شمالًا — بل حتى إلى جنوب فرنسا — ومن تخوم الجزائر شرقًا إلى سواحل الأطلسي غربًا.
كانت تلك الدولة نموذجًا فريدًا في الانضباط الديني وتطبيق الشريعة، وفي تشجيع التجارة والعمران ونشر المذهب المالكي، حتى غدت إحدى أهم التجارب الإسلامية في التاريخ الوسيط، وظلّت العنوان الأبرز للمساهمة الموريتانية في التاريخ الإسلامي.

ومع ذلك، ظلّ حضور المرابطين في الذاكرة الموريتانية باهتًا ومشوَّشًا.
فقد تواطأت السلطة السياسية، التي نشأت بعد الاستقلال، مع سلطة معرفية استوردت رؤيتها من الذاتية الضيقة والتقوقع القبلي، وظلّ الخوف من الذات التاريخية قائمًا، فطمست هذا المجد التاريخي. بل إنّ بعضهم شكّك في موقع “الرباط” الذي انطلقت منه الحركة، وكأنّ الهدف هو قطع الصلة بين هذا البلد وجذوره الحضارية الأولى.
هكذا أُخفيت مرحلة التأسيس — التاريخانية والوجدانية والوجودية — لهذا الشعب، لا لغياب الوثائق، بل لأن النخبة الجديدة وجدت نفسها غريبة عن هذا الامتداد التاريخي، فأرادت أن تنتقم لنفسها من التاريخ.

والأمر ذاته تكرّر مع المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي.
فبدل أن يُحتفى بها كصفحة مضيئة من تاريخ الكرامة الوطنية، صُوّرت كفعل عاطفي أو مغامرة انتحارية، بينما كانت في حقيقتها عملًا بطوليًا مؤمنًا بعدالة قضيته، خاضه رجال بلا دعم ولا عتاد، واجهوا المدافع بصدورهم ووهبوا دماءهم الزكية للوطن والدين.
خلف هؤلاء المقاومين أسرًا كانت تعتمد عليهم في كل شيء، ومع ذلك تركوها تواجه مصيرها المظلم دفاعًا عن الكرامة.
وقد حصدت مدافع المستعمر نحو 500 شهيد، فيما لبّى نداء الجهاد قرابة سبعة آلاف مقاتل على امتداد البلاد، شارك كثير منهم في عمليات قتالية موحّدة ضد العدو، في زمن لم تكن فيه الدولة قد وُجدت بعد، لكن الوعي بالكرامة وبقداسة الأرض كان يسكن أعماقهم.
منهم من تخلى عن إمارته، ومنهم من ترك قبيلته وأسرته، ومنهم من هاجر عن وطنه… كلها مظاهر سامية وصارمة ضد المستعمر، فكيف تُقابَل بالنكران؟

غير أن الدولة الوليدة ورثت عن المستعمر ثقافته ونظرته وأنكرت المقاومة، وتبنّت ضمنًا الفتاوى التي كانت تجرّمها، ولم تخصَّص لها من ريع البلد ميزانية بحثية، ولا اهتمام أكاديمي أو وطني يليق بها وعلى ذلك النهج صارت النخبة أي في ركب نكران المعلوم من الشهامة والدين .

لقد خلق هذا التغييب الممنهج ما يمكن تسميته بـ“اللاتاريخ الرسمي”، حيث تُستبدل الوقائع الكبرى بحكايات هامشية واهتمامات أدبية وأنسابية لا تصنع وعيًا ولا تبني ذاكرة.
وهكذا أثناء غيبنا الممنهج صارت الدول المجاورة تتقاسم تاريخنا: المغرب والجزائر والسنغال، كلٌّ يسجّل ما يشاء من تراثنا وتاريخنا.
فالمغرب يتحدث عن المرابطين كمرحلة من تاريخه، والسنغال تُدرّس جزءًا من تراثهم وكأنها صاحبة الميدان، تسجل بعض رموز الثقافة بينما يبقى أصحاب التاريخ في صمتٍ مريب.

المرابطون والمقاومة ليسا من “اللاتاريخ”، بل هما جوهر التاريخ الموريتاني وروحه.
فمنهما انبثقت فكرة الدولة، وتجسدت روح التضحية والإصلاح، ومنهما تَكوَّن وعي الانتماء إلى فضاء حضاري واسع.
وإحياء هذا التاريخ اليوم ليس مجرد إعادة قراءة للماضي، بل هو استعادة للذات والمعنى، واسترداد لذاكرةٍ أرادها المستعمر أن تظل غائبة، وأصرّ بعضُنا — عن جهل أو عن وعي — على أن تبقى كذلك.
لكننا نشهد تحولا في الرؤية والاعتبار لذلك التاريخ بأمر من الرئيس غزواني بنفض الغبار عن تلك الحِقَب المضيئة ، فأطلقت سلسلة من المبادرات لإحياء تراث المرابطين، من بناء الأضرحة والعناية بآثارهم إلى دعم مشاريع كتابة تاريخهم. كما وجّه بالاهتمام بالمقاومة، عبر جمع تراثها وتوثيق بطولاتها، تمهيدًا لمرحلة جديدة من تثمين تاريخنا الوطني وتضحيات أسلافنا لكننا لانرى أي صدى لذلك التوجه في النخبة وكانّها لاتزال على عهد القطيعة مع ذلك التاريخ الذي لا تنتمي له .

الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار