بيرام.. بهذا الأسلوب لن يكون رئيسا لموريتانيا أبدا

تابعت مقطع من مقابلة حية في إحدى منصات التواصل الاجتماعي، "منصة الحسانية"، في برنامج "آكوابير"، مع بيرام، رد فيها على محاوِره بشأن الانتخابات المقبلة الذي طرح المحاور فيها بعض الأسماء الاستفزازية للساحة السياسة، مثل وزير الداخلية الحالي ووزير الدفاع ووزير الخارجية، مرشحي السلطة لانتخابات 2029 خلفا لغزواني ، رغم ما في ذلك ورجوع عن نسق التحول وروح الإصلاح والتغيير وتبديد الأمل بالتناوب وفق شرعية النضال والعمل السياسيين،هل يجب أن نضرب على شعبنا المذلة والمسكنة والخضوع للمشيئة ، والاحتباس في ضيق الأفق ومقاربة الانتقام والضغائن ، فما فائدة عشر سنوات من التهدئة التي ظل غزواني يعض عليها بالنواجذ وتكبد فيها تسيير مشهد مشتت الأهداف وشركاء متقلبين ومن الصعب الوثوق بهم !
أعتقد أن غزواني (الحصيف عهدي به) لن يدعم قصر النظر هذا أو على الأقل سيكون ضد النهاية التي لا يتحكم معها في مصيره الشخصي بعد مرور الكثير من النهايات المأساوية بين ناظريه ، إنه يدشن طريقا جديدا بديلا عن تلك الدروب المظلمة يظهر في مسار الحكومة الحالي سيترك له حصيلة كبيرة في المجلات التي ترضي الرأي العام - إن استمر في حمايتها - تغنيه عن ضرورة التدخل في الانتخابات بشكل سافر لتنصيب خلف له و فرض مرشحين بلا بريق يتطلب انجاحهم عمليات انتخابية مشينة يصعب تمريرها وبالتالي مجازفة كبيرة بالبلد ، إنها التضحية بالبلد على شاكلة من يصوب رأسه من جبل إيفريست في خطوة يائسة ويصيح الأعمار بيد الله.
كان جواب بيرام ضعيفا جدا وكنوع من التفاهات التي يطلقها المتحدثون عندما لا تكون لديهم سياسية حقيقة يصفونها أو لا يتمتعون بالخبرة والحنكة والكياسة بالقدر الذي يلزم لزعيم سياسي أو حقوقي ينشد القانون ورئاسة البلد ،بل يقدم سموما عنصرية لا يمكن الوثوق بوصاية صاحبها على المجتمع والدولة ، ولن تحقق النصر الانتخابي بأي صفة، لكنها بالفعل تكفي لجر البلد لحرب أهلية. وهذا ما يجب على القانون وقفه باسم المصلحة العليا للشعب، وإن كان ذلك عكس ما تجري عليه الأمور حاليا حيث يستفيد بيرام من معاملة استثنائية فوق القانون، بل يسري ذلك على رهطه. وإن كانوا يفعلون ذلك عن جهل بالقانون، فإن بيرام كاتب ضبط. إنه يتناسى ذلك مثل كثير من الأمور عند الحاجة، في حين يتعرض الكثيرون، بمن فيهم وزراء سابقون ونواب، للمساءلة والتوقيف على خلفية تصريحات ليست بمعشار خطورة تصريحاته أو رهطه ، فما هي مبررات الدولة في ذلك ؟ وما معنى أن تكون مشرعا وتدوس على القانون بملء إرادتك وقوتك وتقف في وجه العدالة لتفرض عليها تقديراتك المنحازة للأمور لمصلحة كل من ينتمي لحركتك "إيرا" مهما كان جرمه !!!
قال بيرام بالحرف ان البلد لن يحكمه واحد من ثلاث: "من الحزب الحاكم أومن الجيش وأمن البيظان" وأنه "سيتفكك إذا حكمه أي واحد من هذا الثالوث "، أي ما معناه: "أنا أو الدمار"، بل ذهب لأبعد من ذلك بالتهديد مباشرة بأن البلد لن تبقى له قائمة. إنها إعلان نية بالاصرار على الحرب الأهلية ! أين الدولة !!!! رغم أن الناس تعرف عنه ميوله الصغيرة الدائمة لخطف الأضواء حتى وإن كان ذلك يضعه تحت عنوان عريض من عدم الرصانة وعدم فهم معطيات الواقع، فإنه يظهر من خلال تلك المقابلات أنه مكشوف للزلل وذلك من ضعف ضبط المشاعر وضعف المحيط السياسي وعدم التقيد بأقل أساليب الفطنة والكياسة، بل تظهر في الخلف تحالفات مسمومة ومهزوزة ويتم التعبير عن روابطها وافتراضاتها غير المدروسة في مثل هذه الخرجات .
لقد خرج بيرام بأحكام قطعية قاسية في حق هذا الثالوث دون أن يقدم أي تفسير وبذلك يكون الجواب من صنف "بيراميات ".
إلى حد الآن، يملك الحزب الحاكم في سجلاته قرابة المليون منتسب، وينعكس ذلك في حجم نتائج الانتخابات بصفة عامة (البلدية والبرلمانية والرئاسية)، ويملك دعما من أغلبية واسعة بدرجة أنه يحوز ثلثي البرلمان وينتمي له اكثر من 90% من موظفي الدولة ومن شيوخها ومشايخها ونخبتها وقبائلها وجيشها ، فما هي قدرة بيرام لمنعه من أن يكون الرئيس المقبل من صفوفه إذا ظلّ متماسكاً ؟ صحيح أن الأمر يتطلب استئصال العناصر التقليدية من المجتمع وتغييرها في النهاية ولكن هل يمكن أن يحصل ذلك بهذه السرعة وفقط بإشارة من بيرام ! .
أما بالنسبة للجيش فهو مرجعية السلطة منذ انقلاب 1978 وحتى نهاية حكم غزواني الذي ستكون له صنيعة خالدة من خلال انقلابه البارع على النظام العسكري حيث قام بتحييد النخبة أو الأرستقراطية العسكرية التي كانت تحكم البلد بازدواجية (الجيش والسياسية) وإحالتها كلها للتقاعد وإخراجها في النهاية من سياق التأثير القوى في المسارات السياسية وتحرير الديمقراطية من الوصاية المباشرة والتلقائية على التداول في إطار الجيش، وهو أيضا ما سيجعله أي الجيش خارج لعبة الرئاسة هذه المرة ؟!!!.
أما فيما يتعلق بأن الرئيس لن يكون من "البيظان" على حد تعبير بيرام، رغم ما تحمله من شحنة عنصرية لا يفترض من شخص يريد رئاسة بلد أغلبيته من البيظان، فيجرنا ذلك ألى التساؤل الذي يفرضه السياق إذن من سيكون ؟!!!
إن بيرام وهو يحضر أتباعه نفسيا لحتمية نجاحه وبالتالي الدفاع عن ذلك في الوقت المناسب وهو ماعبر عنه بأن البلد سيدمر ، يجرنا إلى عرض تفاصيل عن تركيبة المجتمع في الدولة كان يجب أن تظل ضمن المعروف بالضرورة ،إنه يعرض نفسه لتقييم سلبي من مجتمع بكامله وسيحرمه ذلك من تصويت هذا العنصر له في الانتخابات ، وبالتالي من رئاسة البلد للأبد .
إن ما يتجاهله بيرام لسبب ما، أن البيظان منذ ألف سنة هم أصحاب هذه الأرض، رفعوا إسمها شامخا في السماء حين لم يكن تعدادهم يبلغ 300 ألف نسمة حيث سيروا جيشا من 10 آلاف مقاتل ملكوا به الدنيا وأسسوا لواحدة من أوسع وأكبر الدول الإسلامية من إفريقا إلى فرنسا، ثم حملوا بعد ذلك راية العلم والثقافة والأدب إلى المشرق العربي. وعند دخول المستعمر، كان هذا المجتمع حينها 700 ألف نسمة قدموا أكثر من 6000 شهيد وكانوا هم من يحمي هذه الأرض قبل نشأة الدولة على مر تاريخها رغم وقوعها بين الأطماع من عدة جهات، وحافظوا لها على حدودها ومجالها بأضعاف حدودها الحالية مرات، وكانوا يوقعون الاتفاقيات باسم أرض البيظان كما يسميها الأوروبيين في مراجعهم ، بل شمل ذلك اتفاقيات النفوذ على أجزاء من الأراضي المالية والسنغالية حالا، وأسسوا لفضاء البيظان منذ 1034 إلى اليوم بالوسائل المتواضعة جدا ودون أي انقطاع في سلطتهم على هذه الأرض. وظل كل ما هو موجود تحت سمائها تحت حمايتهم ووصايتهم، ولذلك سميت الأرض باسمهم.
هذا الوضع جعل الدولة ، حتى وإن كانت قبضة المختار ولد داداه رحمه الله والعسكر من بعده رخوة جدا، باستثناء معاوية ولد سيدي احمد ولد الطايع في جوانب مهمة مثل اللغة والثقافة، جعلها دولتهم تاريخيا وثقافيا ولغويا ، يسيطرون على خيراتها وسلطتها وقوتها بفعل التراكم التاريخيّ وبفعل التعليم وبفعل العامل الديمغرافي. ومع ذلك لم يكن هناك من يريد التنكر لحق الآخر كأقلية لها الحق في التمسك بثقافتها وكتابتها بالطرق التي تريد، ولا بالتنكر لها وإخراجها من سياق الثقافة الوطنية بل كان منه ومازال ومن يحمل دعايتهم في كل المناسبات السياسية حتى بعدما تبدلت الشروط الضرورية لذلك .
هذا الشعب الذي راكم هذا الحجم من البطولات في ظروف قاسية ولديه هذه الشرعية الطافحة على هذه الأرض، يملك خاصيتين : التسامح وقبول الآخر، وذلك ما برهن عليه تاريخ التعايش، فقد كانت أكثر المشاكل بين البيظان أنفسهم منها اتجاه الزنوج .
كما لازالوا يملكون كل عناصر القوة لحماية المكاسب والرد عن النفس ، وبنفس القدر حريصون على التعايش، فخلال مؤمر آلاگ 1958 لم يكن المؤتمرون الزنوج ليسوا أكثر من 50 شخصا من ما مجموعه 3000 مؤتِمر من البيظان ، ولأجل إرضائهم والحصول على صيغة توافقية تم وقف أعمال المؤتمر ليوم كامل. وإمعانا في إرضائهم فقد اقترح المختار رحمة الله عليه لهم منصب نائب الرئيس في دستور 1961 فيما بعد، ذلك رغم أنهم أقل من 10% . جهل أو تجاهل هذه المعطيات التاريخية والثوابت من شخص يقدم نفسه كحل استراتيجي لمسألتي "التعايش " و"السلم والأهلي "، لا يعد تواضعا للواقع ولا فهما لأدوات اللعبة .
خلال تاريخ الدولة الحديثة، لم يتعصب البيظان لأي قرار يدعم مشاركة جميع الأطراف في تسيير البلد ، وقد أعربوا عن ذلك في موقف صريح من خلال دعمهم لمسعود ولد بلخير من أجل منصب الرئاسة في موقف حر ونزيه وله ثمن باهظ حينها فقط لأن مسعود أثبت وطنيته وانتماءه للوطن، لذلك تم دعمه بجدية منقطعة النظير وفي صفوف أبناء الطبقات الأرستقراطية، بل وتلك التي لم تعارض منها أبدا .
وهنا يمكن التذكير برئاسة لحراطين لثلاث من خمسة هيئات دستورية دفعة وحدها إضافة الوزارات السيادية وغيرها .
إننا في الحقيقة نتكلم بشيء من التجديف عن مجتمع واحد يستمع لنفس الموسيقى ويتلذذ بنفس الطعم ويملك نفس القيم والعادات والثقافة والملبس والطموح …..
ما لا يعرفه بيرام أنه بهذا الموقف يقضي نهائيا على مستقبله السياسي كزعيم وطني وكخيار توافقي أو خيار بديل، ويقلص مساحة احترامه في المجتمع، ويبدل النظرة حوله في أوساط كانت بإمكانها أن تكون حاضنة له بسبب هذا الإعلان العنصري الذي يعاقب عليه القانون والمجتمع بصفة أساسية ،فحين يضع بيرام فيتو على أكثرية الشعب فلا يمكن لأحد أن يعرف ما معنى ذلك سياسيا . وهنا يتوجب رفع المحاذير عن الحقائق على الأرض ، فهذا المجتمع الذي يوضع أمامه الفيتو يمثل من دون مراء الأغلبية المطلقة في البلد وقوة المال والجاه والسلطة، وحسب التركيبة السكانية فلقد ظلت القبائل هي الحاضنة الأساسية للحكم في البلد ، وذلك هو مرد نجاح عملية التوريث على نحو صارم مازال يتهددنا إلى اليوم .
أن هذا المجتمع يقوم على أكثر من 100 قبيلة وأكثر من 400 فخذ أيضا من البيظان ويتضمن البلد 8436 قرية أكثر من 6000 منها من البيظان وعلى طول الطريق الرابط بين نواكشوط والنعمة قرابة 1200 كلمتر والطريق الرابط بين لگوارب ونواكشوط 208 كلمتر وبين نواكشوط ونواذيبو 474 كلمتر وبين نواكشوط واگجوجت ونواكشوط واطار ونواكشوط وازويرات لا توجد سوى قرى للبيظان مع استثناء ضئيل جدا أو لا يكاد يكون ، ومن 166 مقاطعة يمثل البيظان باستثناء مقاطعات امبود في كيهيدي ومال في لبراكنة وجدر المحگن في اترارزة ومقاطعات الضفة أغلبية جلية، فهذا الانتشار الديمغرافي مرتبط أيضا بالقوة والمال والسلاح والسلطة . هذه الوضعية، بعيدا عن محاكمتها، تمثل أمرا واقعا لا يمكن تجاوزه بالديمقراطية كخيار وطني أولا ولا بالتهديد بالعنف ثانيا ،صحيح أن بيرام حصل على 20% من أصوات الناخبين ، لكن هذه النسبة تكاد تكون معدومة من النخبة وذلك انعكس على ترشيحاته النيابية لأن مسالة التلون في المواقف وفي الخطاب جعلت النخبة تقلع عن الركوب في مراكب بيرام الانتخابية باستثناء مجموعة من أطر إفلام التي تسيطر وتشكل خلفية عميقة لخطابات بيرام في إطار الحديث عن الإنصاف والمساواة بتفكيرها المختل القائم على محو الآخر أو شق انسجامه من أجل بناء كيان عنصري .هذه أل 20% أغلبها من الشباب ومن الغوغاء التي يلهب حديث التحريض على انتزاع الحقوق صدورها ويجيّش مشاعرها ويلقي بها في عملية جنونية لساحة "النضال" والشطط والعنف .
إن بيرام يملك فعلا هذه القوة لزعزعة أمن بلد أسبوعا أو عشرة أيام، لكن أيضا لدخوله السجن المؤبد في حالة صرامة القانون .بعض الحالات تجد السلطة نفسها مفروضة على الخروج عن سياق التراخي الذي تعوده بيرام والذي يمنحه وضعا مريحا يستجمع به قواه -كل مرة عقب هدوء العاصفة وبعد مفاوضات ناجحة مع النظام - إلى الخارج ليطالع مناصروه بصور نقاهته وأسرته ويتركهم يقاسون نفس الظروف ويدع البلد باستمرار أمام نفس التحدي في أعقاب كل انتخابات ..
إن حجم الوعي الجماهيري بالتحديات وعمق تقييم وفهم ميكانيزمات اللعبة السياسية تجعلهم يتطلعون لرئيس ونظام خارج كل الأطر السياسية القديمة وأدواتها بما في ذلك بيرام الذي ظل جزء من أدوات اللعبة السياسية مهما أعلن من تطرف لفك الارتباط بها وبالتالي فإنه لن يرمز للتغيير المنتظر إنه لن يتقبل ذلك لكن المجتمع الموريتاني بكل مكوناته توجد فيه أعداد كبيرة من الأطر النزهاء الأصلاء من ذوي الرؤية الثاقبة والإرادة الصادقة والبعد عن الشبهات القادرة على لعب لعبة المستقبل الوضاء المنتظر للبلد .
لقد إنتهى عصر المماحكة ، موريتانيا تريد أن تقلع .
دعوها تمر دعوها تقلع .
من صفحة الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار