الأربعاء
2025/01/15
آخر تحديث
الأربعاء 15 يناير 2025

لماذا أكثر من 100 حزب سياسي في دولة من 4,9 نسمة!!!

5 يناير 2025 الساعة 12 و56 دقيقة
لماذا أكثر من  100 حزب سياسي في دولة من 4,9 نسمة!!!
طباعة

هل الديمقراطية ثروة سياسية، بمعنى تراث وطني أو ليست ثروة؟ وهل تتأثر بسوء الاستخدام أم لا ؟ وهل يجب الحفاظ عليها أم لا؟ وبأي وسيلة ؟ أهي بالتحسين وبالتنظيم أم بالفوضى !؟
 تأطير ضروري
الديمقراطية ليست قواعد جامدة، بل هي نظام وظيفي يمثل ذروة نجاح التجربة البشرية في حرية التعبير والعمل السياسي وضمان فرص التناوب على السلطة. إنها، بالنسبة لنا نظام طارئ مثل الدولة تماما لم يتأت عبر تفاعلنا الداخلي ولا نضج تجربتنا السياسية، ولم يكن مطلبا شعبيا بالأساس، فالشعب، الذي لم يتجاوز عمره في الدولة 40 سنة حينها، ليس ضليعا بمعرفة أنماط الحكم. ومع احتفائنا الكبير بها، لم تكن هناك تنشئة سياسية لمؤسسات الدولة والمجتمع، مثلما أن الدولة لم تكن، بحد ذاتها، ناتجة عن تنشئة تأسيسية للمجتمع لدينا. لم يقع أي شيء من ذلك القبيل. لقد كانتا (أي الدولة والديمقراطية) عطيتين مفروضتين من نفس الجهة. وهذه هي المفارقة العجيبة. ومع ذلك، لم يوجد أي تدريب ولا أي فهم لمقتضيات التحول، ومع ذلك ايضا دخلنا في التجارب بعنفوان وحماس منقطع النظير، وصرنا -يا للعجب- نفتخر بها! وقد صارتا المحظيات الأساسية للجمهورية. وبجهد جهيد، وبحرق سافر للمراحل، استطعنا التواءم مع الشكل لأن الخصوصية البدوية لا تزال، بطابعها الفوضوي الرافض للانضباط، مسيطرة على المشهد والسلوك السياسيين. وهكذا يتوجب مراعاة ظروف تطويرهما من أجل ضمان تبني اشتراطات هذا النظام، ولكي يظل وظيفيا ونهائيا ..التعداد السكاني، ومستوى الفاعلية السياسية، وانعدام النضج العام، وحداثة الدولة نفسها ومؤسساتها (خاصة الديمقراطية)، وضعف التجربة الوطنية التي عرفت نموذجين سياسيين فقط: النموذج المدني الديكتاتوري والنموذج العسكري الديكتاتوري، في تجليات تعددية مختلفة، مع الحفاظ على نفس الروح العسكرية، وفي كنف نخبة حاكمة انتهازية في الغالب، ونخبة معارضة مربوطة ومهووسة بالنماذج الخارجية كمرجعيّة للتطوير، كلها جعلت الواجب، دفعة واحدة، هو مراعاة الخصوصية الموريتانية بالنسبة لكل التجارب المجلوبة، أي بناء نظام معدل حسب الاحتياجات الوطنية، وليس فرض نمط معلب بمقاسات مختلفة في التاريخ والجغرافيا والثقافة والفكر. والمفارقة أن هذا كان أيضا بسبب مساحة الخلاف والتباعد بين الجماعات التي تحرك دفة السياسية، فكان عنصر إثراء للنقاشات والمطالب، وأعطى روحا وطنية لتلك الإصلاحات . والحقيقة أن جميع التجارب التي أُسقطت على مجتمعنا، جاءت من دون جوهر أو روح وطنية. وهكذا ظل تطوير ترقية هذه التجارب غير تلقائي بسبب الفهم، كما ظل يواجه الرفض لأسباب أنانية في الغالب. وهكذا أيضا بقي أغلب القوانين والإصلاحات، التي أقيمت الدنيا لأجلها عبر حوارات واسعة ، غير مفعلة. ونوشك، وفق هذه المحصلة، أن نكون حافظنا على ديمقراطية شكلية ومن دون ديموقراطيين .
1- نموذجنا الديمقراطي
الديمقراطية هي التي دلفت من الباب الخلفي أثناء الحكم العسكري في مرحلتين: مرحلة اللامركزية سنة 1986 عبر الانتخابات البلدية، ومرحلة التعددية السياسية سنة 1991. وظلت تحافظ على شكلها بالنسبة للتوقيت والتنظيم، كما أن التغيرات في الحكم، عبر قنوات غير ديمقراطية، ظلت بحاجة دائمة للتعاون مع المعارضة لأجل الشرعية. وقد ساعد ذلك البلد على إضافة إصلاحات مهمة للتواءم مع احتياجاتنا السياسية. وهكذا حصلنا على تنازلات مهمة من النظام السياسي العسكري "الديمقراطي " تحت ضغط الحاجة للتعاطي معنا. هذه التنازلات، رغم انتهازية النخبة الحاكمة في الغالب، كانت مهمة لأنها محور تفاهم لكل الطيف بما فيه الصلحاء أيضا ولما فيها من نقل التجارب الناجحة في الجوار والعالم. وكان من هذه التنازلات أو الترميم : وضوح النظام الديمقراطي نفسه من خلال الفصل الكبير للسلطات، وإن كان العمل به دون الذروة ، وترقية الثقة والمشروعية السياسية في النظام الديمقراطي نفسه ومخرجاته من خلال إنشاء هيأة توافقية ( اللجنة المستقلة للانتخابات) كضمان للشفافية ، ومنها عزل جهاز الدولة عن التأثير على الانتخابات، و إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسية ، ومنها تحديد سقف الانفاق في الحملات الانتخابية المحدد ب 5 مليون للنائب و500 مليون للحملة الرئاسية كحد أقصى، وتعيين مفوض حسابات لمتابعة ذلك ومراجعة العملية وختم التقرير في انتهاء الحملة الانتخابية، وكذلك تحديد سقف مشاركات الأعضاء فقط ب 10% من هذا المبلغ، ولضمان الشرعية السياسية القائمة على الإلتزامات السياسية و القضاء على المال السياسي وما ينجر عنه من شراء الذمم والإفراط في وسائل الدعاية وعدم تكافؤ فرص الولوج إلى ساحات المنافسة والنزال السياسي، ولكي يكون الإقناع والبرامج هي الرهان السياسي وليس المال .ومن هذه الإصلاحات أيضا ترقية ودعم التحزب أو الحزبية، ومنع الترشحات المستقلة التي يكفلها القانون ضمن الحريات والطموح السياسي، فقد تم تعطيل ذلك الحق لأجل انتظام الناخبين داخل الاحزاب القائمة ،ولمنع الترحال أيضا بين الأحزاب. وتم إبقاء الوظيفة الانتخابية للحزب في حالة استقالة حاملها من الحزب، كما تم في السياق نفسه سن قانون دعم الاحزاب من خزينة الدولة على خلفية عدد ناخبيها .
ينضاف ألى تلك الإصلاحات العميقة أيضا، سد الباب أمام الخلود في السلطة، ودعم التناوب على السلطة، وفتح المجال أمام تعدد الخيارات والبرامج الانتخابية من خلال وضع القفل على المأموريات الرئاسية وتحديدها في مأموريتين فقط ، ووضع القفل على التعديلات الدستورية التي تفضي إلى كسر ذلك القفل، ووضع مفردات مغلظة للقسم باليمين الدستوري ،وقد تم تمديد الإصلاحات صونا للمال العام نحو التصريح بالمال بالنسبة للموظفين السامين عند تسلم المهام وعند مغادرة الوظيفة، وضمانا لحسن التسيير، وكذلك تجريم العبودية كضمان للانسجام العام، وسن قوانين ضد الكراهية، وصقل المفردات السياسية بتحريم المفردات التمييزية أو الجارحة. ومن هذه الإصلاحات، الوصول لمحاكمة رئيس سابق للقضاء على الفرعنة في السلطة، وسوء استخدامها، وغيرها... لقد كانت كلها مؤسِسة وبجهد جهيد، ومهمة لتجربتنا الوطنية ولتهذيب نظامنا الديمقراطي ليتواءم مع حاجاتنا وخصوصياتنا.

2- لماذا يكون تنظيم الأحزاب وحده خارج الإصلاحات ؟

ما زالت الأحزاب تخضع عندنا لقانون البداية التحفيزي ذي الشروط القبْلية التأسيسية البسيطة التي تدعم إنشاء الأحزاب بوصفها الركيزة الأساسية للعملية السياسية التعددية. وبنفس القدر الذي تحتاج به الأحزاب للترقية والدعم كما شاهدنا، تحتاج به للتنظيم وفق شروط نضج التجربة وزيادة الوعي ودرجة التوافق السياسي بوصفها الآلية الانتخابية الرئيسية في العملية الانتخابية، وليست مقتنيات شخصية أو أسرية. يتطلب تجديد العملية السياسية صقل وتجديد القنوات السياسية خاصة الأحزاب بما هي وعاء للتفاعل والفاعلية في العملية السياسية برمتها ومخرجاتها. وهكذا لا يمكن تمييع المشهد والحفاظ على نفس شروط تأسيس الأحزاب القديم، فنحن قادمون من هناك من دون أي جدوى ، كما يجب كسر احتكار الادارة الأزلية لهذه الأحزاب على مجموعة صغيرة أو لون أو خطاب غير بناء. ومع أن الأمر لا يمكن بقرار قسري فوقي، فإنه ممكن بالتدرج عبر قرار تأسيسي جديد يقوم على تعقيد شروط الحصول على حزب سياسي،وشروط صارمة أيضا للحل ، وبالتالي عدم تفريط أصحاب الاحزاب في أحزابهم. وهكذا سيتم تحرير الاحزاب الموجودة من قبضة الشخص أو الجماعة الضيقة في مواجهة المنتسبين والفاعلين الجدد، أفرادا وزرافات، عند تقليص عدد الأحزاب. وستفتح الأحزاب أبوابها للنقاشات الداخلية وأمام تنوع الأفكار والبرامج مما يفضي لخلق أحزاب ديناميكية ووظيفية. وهكذا نتخلص أولا من معادلة :"مقابل كل طموح فردي أو انشقاق سياسي ترخيص جديد لحزب سياسي".
هذه النظرة التأسيسية ضرورية بعد نضج العملية السياسية نفسها، فلابد من خلفية جديدة للقانون تقوم على ضبط النظام السياسي خاصة الحزبي وفق مسطرة قانونية جديدة .كيف نتوقع إصلاحات وتحسن في المؤسسات الديمقراطية وفي مناخ العملية السياسية مع أحزاب ضعيفة وصدئة، وملكيات شخصية أو أسرية أو ايديولوجية مغلقة، أو تجليات لصلف سياسي أو طموح فردي ، فالأحزاب ليست ملكيات شخصية وليست أدوات للتجارة. إنها عبارة عن برامج ورؤى لتمكين المجتمع من الانتظام في العملية السياسية وفق برامج تسعى لخدمة الدولة والمجتمع وتحقيق الرفاه المشترك. فهذه العملية التفاعلية المهمة ،لابد أن تخضع لنظام وتنظيم قانونين صريحين وملزمين، ففي موريتانيا اليوم يوجد 25 حزبا مرخصا وظيفيا، في حين أن أكثر من 100 حزب تسعى للترخيص و 62تطعن في قانون سحب الرخصة المرتبط بالمشاركة في الانتخابات، و48 مشروع حزب يسعى للترخيص (أرقام قابلة للتحيين )، أي أننا بصدد الترخيص لأكثر من 100 حزب سياسي أغلبها عبارة عن طموح فرداني للحصول على قاعدة للسمسرة في الغالب، وليس انعكاسا لطموح ولا أمل في تغيير البلد. إننا في طبعنا نسعى لأن نظل نشازا، ففي الولايات المتحدة أكثر من 300 مليون نسمة مع حزبين أسياسيين و 13 حزبا صغيرا وفي بريطانيا 67 مليون نسمة وتقاليد تاريخيّة في الديمقراطية بها 5 أحزاب ، وفي تركيا 85,3 مليون وبها 15حزبا. وإن كانت فرنسا حطمت الرقم القياسي، فإنها تملك حدودا قوية للحرية وبها عدد سكان موريتانيا 12 مرة، كما أن السينغال التي بها أكثر من 100 حزب وتجمع تساوي تعداد السكان الموريتانيين 4 مرات، وبها ديمقراطية وظيفية، ولم تشهد انقلاباً ولا انقطاعا للعمل الدستوري، وخضعت للاستعمار قرونا، فكيف يمكن أن نكون، وبدون أي من تلك الخصائص، بكل هذا العدد من الاحزاب؟. إنه بسبب الطبيعية الفوضوية وخيارات السهولة التي ينتهجها الموريتانيون في كل شيء. إن هذا العدد، وفقا لنفس قانون الترخيص الأول، معرض للتضاعف على شاكلة منظمات المجتمع المدني التي تعد بالآلاف.. فما معنى أن يكون الشعب الموريتاني أقل من 5 مليون نسمة وبه أكثر من 100 حزب سياسي؟ .
كيف تقبل النخبة السياسية، التي تسعى لتطوير العملية السياسية وتطالب بالحوارات لأجل خلق إطار سياسي وظيفي، بأن تقف في وجه الإصلاح دعما للعبثية، وتقف ضد تقييد التشتت !! ومع ذلك، يظل السؤال الأساسي من دون جواب: ماهو الجديد الذي ستحمله هذه الاحزاب وينقص الساحة أو الخطاب السياسي !
صحيح أن الانتخابات الماضية كشفت عن انتهاء صلاحيات الكثير من هذه الأحزاب، وكشفت عن ظاهرة مشينة وانتهازية وغير شريفة تتعلق ببيع الترشيحات التي وصلت ل 30 مليون للترشح للمقعد الانتخابي في بعض الدوائر، بحيث تم افساد الخريطة الطبيعية للناخبين والعقليات وشروط وظروف وأخلاقيات عملية المنافسة نفسها، فبشراء الذمم أيضا تم نقل الناخبين عن موطنهم الأصلي إلى تجمعات اخرى مقابل المال، ونتج عن ذلك برلمان مفعم بعدم النضج وعدم الالتزام السياسي. إنهم نواب يريدون تسهيل أعمالهم. وهكذا انقلبت الأحزاب إلى بورصة رخيصة في الكثير منها، وليست آلية لعرض الأصلح. وإذا كان هنالك من لديه مشروع سياسي وطني جديد يريد الترخيص له بحزب جديد، فإن الغالبية مسكونة بهذا النمط الجديد من السمسرة. وهكذا ستكون زيادة الأحزاب مجرد زيادة سوق السميرة. وفي هذا السياق، فإن الدولة مسوولية لا تتوقف على التنظيم وحده، ولكن أيضا على التخليق السياسي. وهكذا يتوجب عليها في الأساس، وليكون الإصلاح متكاملا، أن تفرض على الأحزاب وضع آلية شفافة للترشيحات، وتفرض الرقابة عليها من خلال تحيين القوانين المتعلقة بتسيير الحملات السياسية بشكل صارم و تحيين نظام التبرع .
3-الخلاصة
إنني أستغرب رفض هذا الإصلاح الذي يعبر عن عدم الانسجام في رؤية إصلاحية وطنية بسبب غشاوة الأنانيات الفردية، ويفسر فشل النخبة السياسية فكريا وسياسيا وعمليا في دعم الإصلاحات الجوهرية، عكسا للشعارات التي تحمل فوق رأسها. فهذا المشروع الجديد يفصل بين المشروع السياسي الوطني الذي يتطلب قاعدة شعبية وانتشارا سياسيا وأفقيا في البلد، وتعبئة جماهيرية على برنامج سياسي تنم عن أن المشروع تتبناه مجموعة جادة وتملك رؤية وطنية، وبين المشروع السياسي الفردي المبني على ملء الاستمارات وجمع قلة قليلة من الأهل أو الأقارب في مؤتمر تأسيسي للحصول شروط الترخيص.. فأيهما أقرب للإصلاح والجدية؟.
إن قانون الأحزاب الجديد ينطلق من خلفية إصلاحية وتنظيمية عميقة بعد نقاشات مهمة مع الأحزاب السياسية المرخصة، ويرمي إلى إصلاحات جوهرية وضرورية من أجل تغيير الخريطة والشكل الحالي للأحزاب، وضبط الاطار السياسي، ودعم الفاعلية السياسية .إن هذا القانون ينتمي للإصلاحات الجوهرية المتوائمة مع حاجاتنا السياسية خاصة عدم استنزاف نظامنا الديمقراطي بالميوعة والابتذال وانعدام النسق والجوهر. وهكذا يكون الدرس من هذا القانون أننا عندما نفرض شروطا قاسية على إنشاء الأحزاب، فإننا نفرض نمطا جديدا على الأحزاب الموجودة لكي لا تفقد ترخيصها. وبهذا نضمن تفعيل الأحزاب السياسية وتقويتها. إن الحزب الذي سيرفض الانفتاح سيسقط بالضرورة. وهكذا نكون قد ضمنا، عبر القانون والتخطيط، نظاما حزبيا قويا ومستديما بفرض اشتراطات تدعم الجدية والتنوع والفاعلية والانفتاح.

من صفحة الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار