الاثنين
2025/12/29
آخر تحديث
الاثنين 29 دجمبر 2025

في صالون الولي محمذن ولد محمودن في المذرذرة

منذ 18 دقيقة
في صالون الولي محمذن ولد محمودن في المذرذرة
صورة مع المحاضر السيد وان بيران على هامش الصالون
طباعة

في قلب مدينة الصَّنگَّه، أو «المذرذرة» كما صارت، والتي تأسست حول حامية عسكرية للمستعمر الفرنسي، انتقلت سنة 1907 من منطقة «أخروفه» ـ أول محطة عسكرية للفرنسيين سنة 1902 بعد اجتماع سهوة الماء (اركيز حاليا) الذي رتب للدخول السلمي للاستعمار مع إمارات لبراكنة وجزء من اترارزه وقبائل المنطقة، باستثناء أجيجبه وإيداب لحسن، بفتوى دينية من لدن باب ولد الشيخ سيديا بنفوذه الكبير والشيخ سعدبوه بنفوذه الروحي ـ إلى بئر «تنديگرتن» لقبيلة إنگادس شبه المندثرة، ربما من أجل مراقبة تحركات إمارة اترارزة عن كثب، التي لم تحسم موقفها سريعًا، وراوحت بين الصدام والمهادنة التكتيكية حيث شكّل هذا التردد مصدر قلق دائم للإدارة الاستعمارية ، بل شهدت المنطقة بعد ذلك انتفاضة يحسن القول إنها عامة ضد المستعمر بالجهاد قادتها إلى مجموعة ضخمة من المعارك مثل سهوة الماء، وآلاك وأخروفة ،ولگويشيشي، والتگلالت، والعزلات وغيرها بزعامة الأمراء وشيوخ القبائل وشخصيات وازنة حينها مشكلة جيوشا للجهاد ومقدمة الكثير من الشهداء ، وكذلك بالمقاطعة والممانعة التي انتظم فيها الكثير من زوايا المنطقة وكانت درعا شرعيا للمقاومة. إنها في الحقيقة منطقة مكتملة الوعي يصعب صهرها في موقف واحد .
لم ينقطع الإشعاع العلمي، في تجلياته المضيئة، من هذه المدينة وفي محيطها، بل كانت مكانًا لنوادر العلم والصلاح والشكيمة ورجاحة العقل، وشهدت الكثير من المساجلات العلمية والعقلية، وهكذا كانت معايير الفتوة فيها تختلف عن غيرها…
كما افتُتحت فيها ثالث مدرسة في البلد بعد كيهيدي ودبانگو، درس فيها المؤرخ الكبير المختار ولد حامدن، وأول رئيس للبرلمان الموريتاني المختار ولد يحيى انجاي، ومن الجيل الذي يليهم الأمير محمد فال ولد عمير، وغيرهم من الرموز الوطنية، قبل أن يتم غلقها وفتح بديل عنها في أبي تليمت، تلبية لطلب عبد الله ولد الشيخ سيديا الرجل الوحيد الذي زاره الجنرال ديغول سنة 1952 من بين كل مستعمراته، حيث أن الزيارة تعطي للامتياز كل مدلولاته .
في هذا السياق العقلي للمنطقة، التأم الصالون، حيث كان قد تم اختيار كلمة «الصالون» نفسها عنوانًا لهذا الصرح، وهو يتناول الإشكالات الوطنية الكبرى والقضايا الاستراتيجية للبلد، بعيدًا عن منطق الأطر التقليدية ، من لدن رجل بدوي المنشأ مغشي بالفطنة والعقل وحسن الاستشراف ، بما لا توحي به القريحة العادية، وعلى نحو يفتح طريقًا مغايرًا للفهم، يتم فيه اختيار المواضيع ومعالجتها من لدن النخبة وأصحاب الاختصاص بطريقة رصينة، في جو مشبع بالبساطة وتلاقح الأفكار، وفي محيط سياسي مخضب بالتفاهة السياسية وضعف الخطاب ، مما أعطى للصالون بُعدين رئيسيين: تنوع المخرجات، واستمراريته رغم جميع الظروف، حتى في الفترات التي تكون فيها حرية التعبير والتضييق على الآراء في أوجهما.
وهكذا، وعلى مدى أربعين سنة، ظل الصالون ملاذًا للآراء الحصيفة، وساحة لتمازج الأفكار العلمية والمهنية، والتأصيل لبعض الظواهر، دون أن يتعرض لأي انقطاع، وفي كل الأزمنة، حتى تلك التي يطبعها تقلب مزاج السلطة.
كان اختيار موضوعه، هذه المرة أيضًا ، بعيدًا كل البعد عن الاهتمامات العادية للنخبة المنغرِسة في السياسة والفكاهة. صحيح أننا نختلف عن العالم حتى عندما نريد التقليد؛ فالمواضيع الاستراتيجية التنموية والاجتماعية والعلمية تأتي عادة من الجامعات ومن النخب العلمية، وعلى نحو مختلف جاء موضوع اليوم، وهو التنمية المحلية للبلديات وطرق التفكير فيها، من صالون الولي، وليس من جامعة ولا من وزارة …
هذا الموضوع غير مطروق إعلاميًا ولا سياسيًا، مع أنه استراتيجي وتأسيسي بالنسبة لبلد مهووس بنقل التجارب التي تُعدّ نهاية لمسارات سياسية وفكرية لشعوب نضجت تجاربها السياسية والاجتماعية، وشبّت عن الطوق، ولديها الإمكانيات الاقتصادية والقدرة على إنتاج تجارب جديدة تدعم توسيع قاعدة الشراكة واللامركزية. عكس بلدنا المكبل ، الذي يتسع فيه بريق وقوة ونفوذ القبلية بنعراتها وأحاسيسها ووصايتها وانتماءاتها، والتخلف المتجذر وانعدام المدنية، أو بوصاية البنك الدولي، تلك المؤسسة التي تستعمرنا بالدَّين وبالأفكار المزيفة للنهوض؛ فإلى اليوم، وربما إلى غد، لن نتمكن من تقييم أدائها بعد أربعين سنة من وصفاتها التي لم تُدخل الاقتصاد في تنمية ولا نمو، ولا دعم البنى التحتية، ولا في المصادر البشرية، ولا في الرهانات الأمنية أي بمؤشر أكثر التصاقا بالواقع من مؤشرات تصنعها معايير لا نعرفها جيدا مثل «دعم» أو «تعزيز القدرات» أو «الهشاشة» أو «الولوج»، ضمن القيم الغربية الواجب علينا الالتزام بها، مصطلحات فضفاضة تُصاغ في شكل مشاريع، وهي في حقيقة أمرها ازدراءات براقة خلال حقبة مطبوعة بالإخفاق وتحفز على الفساد وإغراق البلد بالديون … وهكذا تظل هذه التوجهات والمشاريع مجرد أفكار لتزيين الخراب، وحتى عندما يتحول الموضوع إلى موضوع استراتيجي أو حساس، فإنه يبقى من دون تعبئة ولا توعية مصاحبة، ولا قوانين مؤسسة…
كان المنعش لهذه الحلقة هو «وان بيران»، سياسي وإداري مخضرم، ينتمي بعمق لبلده بكل ثقافاته، ويتمثل التنوع في شكله وجوهره، ومن دون أي تنكر لثقافة مجتمعه في تنوعها وثرائها. فكان ظهوره باللباس المزركش والطاقية الأصيلة عنوانًا للأصل، وكان كلامه بالحسانية الدارجة الممزوجة بالعربية عنوانًا لتصالحه مع التاريخ. ففي هذه الأرض أسس كل من العرب والزنوج حضارات وثقافات، وكان التواصل والتثاقف هو العنوان الكبير.
تاريخ طويل، بدأ من عهد لبي بن ورجابي، الملك التائب، الذي كان مع المرابطين في المعركة التي استشهد فيها يحيى بن عمر، الزعيم الأول لدولة المرابطين، كما كان من عوامل انتصار يوسف بن تاشفين أن معه كتيبة من الزنوج أرسلت الذعر في قلوب الفرنج، الذين لم يكونوا يعرفون البشرة السوداء… كما أن المعارك بين صنهاجة وبني حسان كانت بمشاركة الزنوج في الطرفين. وكانت أول مملكة بعد مملكة التكرور، هي مملكة جولوف المرابطية، بزعامة أنجانان انجاي أحد أحفاد بوبكر بن عامر، وأمه فاطمة صال، وكذلك كاييور والوالو. كما كانت مملكة غانا مزيجًا من الجنسين.
وقد استمر هذا التداخل العرقي والديني والسياسي والاجتماعي؛ فقد انقسمت إمارات اترارزة ولبراكنة وإدوعيش حول سليمان بال والحاج عمر تال، وكان وجود الولوف في الضفة اليمنى بترخيص من أمير اترارزة، عندما أعدم الفرنسيون قراهم وحرقوا محاصيلهم، وكذلك الحال بالنسبة لباقي الضفة المحاذية للبراكنة ومدى نفوذ تگانت. وكانت جميع الاتفاقيات مع المستعمر تعتبر أن زنوج الضفة اليمنى ليسوا خاضعين للفرنسيين، وقد قدم بكار ولد اسويد أحمد الحماية لمجاهدي الضفة: بورو انجاي، وعبودل بوكر، ومن فوتا، والوالو (1889–1891).
و«وان بيران» من مجتمع علم متجذر، وهو بالتالي منسجم مع ثقافة البلد، التي تريد النخبة السنغالية في موريتانيا أن تفرض عليها اشتراطات قصدها الإرباك في وجه الانسجام وكسب الرهانات الكبرى، حتى لا يتقدم البلد ويظل يناقش بإيمان تافه مسألة اللغة والثقافة والهوية في عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. ولأن الأنظمة العسكرية ضعيفة ولا تملك هوية حقيقية، ولأن المختار ولد داداه لم يشأ أن يفتح مجموعة عريضة من نوافذ العداء، فإن هذا المشكل ظل دون حل جوهري، وهو واحد من أكبر أسباب تأخر البلد.
الخبير الإداري المشرف على هذا الملف قدّم تحليلًا عميقًا ومقترحات علمية حول إمكانية الاستفادة من اللامركزية من خلال التكامل والتنسيق بين عدة بلديات، حتى تكون وحدة واحدة قابلة للتمويل، وتجاوز العقبات الكبيرة المرتبطة بالعقليات، وبضعف التصور، وانعدام التنسيق، وغيرها من العوائق التي تحول بين هذه البلديات والاستفادة من التمويلات الكبيرة التي تمكنها من التطور والنهوض والانتقال إلى وضع آخر قائم على الكفاءة، واستغلال الموارد، والنجاعة.
وقد كان الموضوع حيًا، خاصة بمشاركة مديرة الإسكان، التي ربطت الخطط العمرانية والتنظيمية بمثل هذه الخطط التنموية، والتي تشترط رؤية وتنسيقًا موحدين لمجموعة من القطاعات حتى تظل العملية التنموية مفيدة. وبمداخلات متعددة، أهمها مداخلة والي ولاية الترارزة، الذي طالب بإسناد هذا الصالون الذي يمتد لأربعين سنة، وأكد على أهميته الكبيرة، وطبيعة المواضيع، وشكل تناولها، وطالب بإعداد مخرجات لهذه الحلقة وتسليم نسخة منها للسلطات، في سبيل الإسهام في الجهود التي تتبناها الدولة في خطتها 2025 حول الموضوع.
وقد اكتفى المؤسس للصالون بأن يبقى وكأنه خارج الحدث أو بمثابة المتفرج عليه، لكنه في الحقيقة كان مثل صانع الساعة، الذي رتّب أجزاءها الدقيقة في حركة دائمة، ثم تركها تعمل من تلقاء ذاتها.

الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار