هل سيكون نجاح جوماي فاي استمرارا لنجاح التجربة السينغالية أو منعطفا لهدم استقرار البلد؟
يتوقف ذلك على فهم الفريق الجديد للعبة السلطة. إنها جماعة ولدت من رحم الشارع، لم يكن لها أي احتكاك بالسلطة. وهنا يبرز واقع مغاير تماما ورهانات متتالية لا يملك الرئيس الجديد حيالها فرصة الانتظار، ومواجهة مخططات أكبر من عمر الدولة نفسها لم تكن في متناول فهمه ، بالاضافة لتأثير الجوع على المواطنين الذين يتصورون فوريا وضعا أحسن عند نجاح مرشحهم كثمن لأصواتهم، إذ تعد البطالة واحدة من أكثر القضايا إلحاحا في السينغال، بمعدل وصل لنحو 19.5% في الربع الثالث من العام الماضي، ويعيش قرابة 40% من السكان في المناطق الريفية، ويبلغ معدل الفقر 57.3%، مما ضاعف وتيرة الهجرة إلى أوروبا بصفة خاصة ، ينضاف إلى ذلك الجوار والمصالح المتشابكة، والأكثر إلحاحا من ذلك بناء النظام، أي الترتيب الجديد للحكم: هل سيظل بنفس الأدوات أو بأدوات مختلفة؟. وستبرز في ثنايا ذلك - وهذا هو أكبر المشاكل تأثيرا على السلطة- مسألة الشرعية النهائية. إن الرئيس سيظل رئيسا بحكم الاطلاع على كل ما يجري في بلده وعلى كل المعلومات التي قد لا تكون قابلة للتقاسم مع المعاونين، وقد تتطلب قرارات ليست ضمن خطة المتفاهم، علما أن الرئيس الحالي مرشح، ضمن الخطة ب، وليس هو صاحب الشرعية، وليس هو قائد الجماهير للنجاح. إن قائدها هو "الطموح والمتطرف نسبيا" سونكو ، فمتى ستموت تلك المشاعر في جوف سونكو الذي صعد أحد معاونيه على أكتافه ليصل للحكم ويختطف ثمرة نضاله ،ومن ثم يخرج من تحت عباءته؟. إنها معضلة تشبه قصتنا: فهل سيكون بحاجة لاستشارتنا!
سابقا، تعتمد السلطة في السنغال على هرمين : فرنسا والمجتمع الديني .فرنسا من خلال وجودها العسكري وتأثيرها الاقتصادي والثقافي والسياسي على السينغال .
والمجتمع الديني هو جملة المشيخات التي تتقاسم مجموعات كبيرة من الناخبين. وهنا يلاحظ ضعف الهرمين، لكن ليس لدرجة أنهما إذا لم يمكنهما اعتراض نجاحه لا يمكنهما إسقاطه أو جره لبحر من الفوضى .
السينغال واسطة العقد بالنسبة لفرنسا في افريقيا وبالنسبة للبعد الثقافي وللتأثير الديبلوماسي داخل منطقة لفرنك ولرعاية المصالح الفرنسية. إنها من أكبر المرتكزات الفرنسية في منطقة لفرنك، وعندما تسقط فسينهار البناء ،فهل لشاب ريفي القدرة على فعل ذلك؟ وهل ستقبل فرنسا بالأمر ! وهنا يجدر العودة لمرتكزات ، حزب باستيف، الذي رشح فاي باقتراح من رفيقه سونكو، الذي يعتبر أن مراجعة اتفاقيات استخراج الغاز ومراجعة العلاقات مع فرنسا أهم محاور حملته في الرئاسيات، ما يعني أن "علاقات السينغال، من الآن فصاعدا، لن تحترم إلا في ضوء السيادة السينغالية والمصالح الحيوية السينغالية، وفي إطار الندية " على حد تعبير الرئيس فاي والزعيم سونكو. وقد اعتبر المحللون في صحيفة لوموند الفرنسية، أن هذه الفكرة، بهذه النبرة، تعني انقلابا حقيقيا على المنظومة السياسية التي حكمت السينغال منذ استقلاله. وبعبارة أخرى، إنها ثورة في الفكر السياسي والدبلوماسي السينغالي.
أما فيما يخص المجتمع الديني فإنه يعيش على التسهيلات البروتوكولية والامتيازات التي يحصل عليها من السلطة خاصة تقدير المشاييخ وزيارة الرؤساء لهم وحجم الهدايا الكبرى من خزينة الدولة، فهل أيضا سيقبل الشاب الذي تعود على جباية الدانق لمصلحة الدولة الاستمرار في ذلك النهج؟ ومن المهم أن نتذكر أن الرئيس السينغالي الجديد، السيد فاي، وصانعه السيد سونكو، يتدثران بمسحة دينية مختلفة فلا ينتميان للطرق الصوفية السينغالية (المريدية، التجانية، القادرية، اللاهائية )، بل إنهما نسخة معدلة من الفكر الإخواني الأردوغاني، مما ستكون له انعكاساته داخليا على وزن وهيمنة المشيخات على القرار الحكومي السينغالي، وخارجيا على الموقف من القضايا الإسلامية والعربية المتطابق مع الرؤية الاردوغانية ،مما سيعقد الوضع بالنسبة لفرنسا التي ستجد نفسها في صف المعارضة الجديدة للنظام الطارئ ، فهل سيقبل المشايخ بين عشية وضحاها بالتخلي عن حظوة ورثوها عن كابر جعلتهم ضمن لعبة الحكم في السينغال !
ويبقى السؤال المطروح ما هو الموقف الجديد حيال الجوار خاصة موريتانيا ومالي. ستختلف النظرة للبلدين، وذلك يعتمد على حجم عدسة العين التي سينظر بها الرئيس للوضع في البلدين: هل هو لحماية المصالح بالطريقة القائمة بها حاليا والتي جاءت عبر سلسلة توترات وتوافق ومد وجزر أو سيتخطى ذلك إلى محاولة رفع السقف وانتزاع مصالح جديدة أوفى فرض نمط جديد من التعاطي مع البلدين لا يقوم على توازن المصالح؟ الأمر واضح بالنسبة لمالي فهو يتوقف على نمط الموقف الجديد من فرنسا .
أما اتجاه موريتانيا فالوضع يختلف. تاريخيا تعيش النخبة السينغالية حالة من عدم استقرار التقييم للجارة الشمالية، والنظر إليها بشيء من الريبة مما أدى لاحتكاك خلال التسعينيات شكل فيه دعم العراق لموريتانيا فرصة كبيرة للتفوق العسكري الموريتاني ، وقد أدى ذلك لدرجة من توازن الرعب هدأت العلاقات وأعطتها نفسا عميقا في السلم. وهكذا كانت جميع التوترات بعد ذلك تحل بالشكل الودي سواء تعلق الأمر بأزمة الأحواض الناضبة أو أزمة الصيادين وغيرهما . السينغال منذ عقد ونصف تتسلح عشرة أضعاف موريتانيا تقريبا، وهكذا ربما يكون لذلك تأثير على عنصر توازن الرعب، وقد يفهم ذلك في خطاب سونكو الذي تبرز فيه نقمة غير معهودة في العلن اتجاه موريتانيا ، ومع ذلك لا يعد ذلك عنصر تفوق للسينغال، فقد برهن الجيش الموريتاني على درجة كبيرة من الجاهزية تعوض التفوق في العتاد .لكن بالنسبة لموريتانيا هناك التفوق الأهم المرتبط بالمصالح العليا للشعب السينغالي في مجال العمالة والصيد ومن ثم الغاز. إنها مجموعة من الملفات الكبرى المطروحة بصفة تلقائية وفورية أمام الرئيس الجديد إضافة لتصفية تركة الأنظمة التقليدية ذات الخط المستقيم في التعامل مع الرهانات السينغالية وفي طريقة تسيير الشأن العام. إنها على النقيض تماما من الافكار والتصورات التي اطلقها الرئيس الجديد وحاضنته السياسية ومرجعيته في الخطاب الجماهيري الذي ألهب صدور الشعب السينغالي وحشد القوة الشابة في توجه جديد يوقد الطموح حيث رفعته للسلطة على نحو مخالف للتوقعات بفعل اتحاد أبناء المهمشين والفقراء والطبقة الوسطى في المجتمع تناغما مع خطاب القطيعة .
إن كل من يقول لفرنسا كلمة سوء أو يتوعدها سيجد شعبية جاهزة في بلدان إفريقيا، وكل من يرفع شعارات الاصلاح والتغيير سيجد شعبية أخرى أكبر . إنه خط إئتمان سياسي كبير مفتوح أمام السياسيين، لكن ثمنه باهظ خاصة إذا غابت الحنكة والحكمة. وهكذا سيكون هذا البلد العجوز أمام معضلة في يد شاب انبجس بمعجزة تاريخية، وليس من صناعة الخبرة ولا التراكم، وأمام إكراهات تسيير ملفات الدولة. إنه مصير عشرين مليون مواطن تحفه المشاكل من كل جهة. فكيف سيكون التناوب السينغالي إذن نحو استقرار دائم حافظت عليه الارستقراطية القديمة واقتطفت ثماره طبقة مثقفة واعية تفهم وتقدر التوازنات وتفصل بين خطاب الحملة وعقلانية تسيير المصالح المتشابكة، أو إخفاق جلبته السوقة سيدفع البلد نحو عدم استقرار تتأثر منه المنطقة أيضا !
من صفحة الاعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار