تفاصيل حصرية عن سيرة الأمير المجاهد سيد أحمد ولد أحمد عيدة تنشر لأول مرة
تحتلّ إمارة آدرار موقعًا محوريًا في التاريخ السياسي والعسكري والاجتماعي لموريتانيا، غير أنّ التوثيق المتعلق بها ظلّ محدودًا، وظلّ – في معظمه – خاضعًا للسردية الاستعمارية الفرنسية التي ركّزت على الجوانب العسكرية والإدارية، وأهملت عناصر محورية في التجربة المحلية، مثل البنية الاجتماعية، وشبكات التعليم التقليدي، والطرق الصوفية، وحركات المقاومة الشعبية.
وقد اعتمدتُ – كما في بحوثي السابقة – منهجًا يقوم على المتابعة والقراءة النقدية للمصادر المتاحة على قلّتها وتشتّتها.
غير أنّ تطوّر الأدوات المنهجية والبحثية، إلى جانب المسافة الزمنية التي تسمح برؤية أوضح، يفتح اليوم أفقًا أرحب لإعادة قراءة هذا الحدث قراءةً أعمق، تُنصِف السياق المحلي وتستكشف ما تجاهلته الوثائق الاستعمارية من زوايا اجتماعية وثقافية وسياسية شكّلت جزءًا أصيلًا من المشهد التاريخي آنذاك.
مولد ونشأة الأمير؛
في مجتمع لا يهتم كثيرًا بالتوثيق المكتوب ويعتمد غالبًا على الرواية الشفوية، يصعب تحديد الوقائع والأحداث بدقة، ويظلّ الاستعمار في كثير من الأحيان مصدرًا للتواريخ. ومع ذلك، تكاد المصادر تتفق على حادثة سقوط الدار على والد الأمير أحمد بن سيد أحمد العيدة سنة 1317هـ / 1899م، وهي واقعة مشهورة شكّلت نقطة مرجعية في تأريخ حياة الأمير.
وبالاستناد إلى هذه الحادثة، يكون عمر الأمير حينها تسع سنوات، مما يحدد ميلاده في 1306هـ / 1889م.
تربّى الأمير الشاب في كنف الشيخ ماء العينين، ونهل من أدبيات الجهاد وروح المقاومة.
بداية الإمارة
سنة 1904م قدمت جماعة من أولاد غيلان إلى الشيخ ماء العينين تطلب منه إرسال الأمير الفتى. وبنصيحة الشيخ، تم تنصيب سيد أحمد أميرًا على آدرار وهو في الخامسة عشرة من عمره، في فترة تميزت بالفوضى واضطراب الأوضاع داخل الإمارة.
استطاع الأمير الشاب أن يعقد تحالفات قوية، وأن يعيد شيئًا من الانسجام الداخلي، فارتفع شأنه وأحبه أهل آدرار.
الأمير المجاهد… صولات وجولات
هجوم تجكجة (18 يونيو 1905م)
عندما وصل خبر مقتل كبلاني إلى الأمير سيد أحمد ، بادر بتنظيم هجوم على قلعة تجكجة، شارك فيه قادة بارزون من آدرار: الشرفة اولاد غيلان اديشلي وأولاد بسبع.
كان هذا الهجوم أول ضربة موجعة تتلقاها فرنسا بعد مقتل كبلاني.
1906 — “غزي لركاب” وبيعة السلطان
بدعوة من السلطان مولاي عبد العزيز، استدعى الشيخ ماء العينين أعيان البيظان، وكان سيد أحمد على رأس ممثلي آدرار.
ابتعث السلطان المغربي مولاي إدريس إلى آدرار لتنسيق المقاومة. مكث مبعوث السلطان شهرين ضيفًا عند الأمير بين أطار ومنطقة الزرقة.
لكن الأمير سيد أحمد اكتشف أن مولاي إدريس يسعى سرًا لاستصدار بيعة بعض قبائل آدرار للسلطان المغربي، فرفض ذلك رفضًا قاطعًا، وألزمه بالخروج إمّا:
للعودة، أو لقتال النصارى.
ذهب مولاي إدريس إلى تكانت وعسكر في “العين الخظرة”، بينما قاطعته قبائل أحيي بن عثمان، ولم يشارك الأمير سيد أحمد في معركة النيملان، مما يدل على استقلالية قراره.
وقد وثّقت هذه الوقائع في تقرير للحكومة الفرنسية عن الوضعية العامة لموريتانيا سنة 1906 وهو ما يعزز قيمة هذا الحدث من الناحية التاريخية وقد كانت مشاركة الأمير في الكفاح ضد المستعمر مشهورة في عدة مواقع
كان اولها الهجوم على تجكجة عقب مقتل كبلاني.
ثم الهجوم على حامية اكجوجت بيغرف التي قتل قائدها النقيب ربو ومعرفة ازويكة ضد افريرجاه ثن اماطيل وحمدون ومعركة مقطير ثم معركة اكصير الطرشان التي قتل فيها الملازم فيولي . ثم معركة اغسرمت بانشري التي قتل فيه النقيب بابلون صيف 1909 .
بعد الخسائر التي ألحقتها هجمات الأمير بالمحتل، شنّت فرنسا حملات مضادة سنة 1909–1910 مستهدفة المناطق الشمالية لآدرار، وهي المناطق التي كانت مركز انطلاق هجمات الأمير، مما ضيّق الخناق على المقاومة ودفع الأمير نحو الحوض لافتتاح مرحلة جديدة.
مرحلة الحوض… “حرب العصابات الخاطفة” (1910 فصاعدًا)
اعتمد الأمير على أسلوب الغارات السريعة التي تستهدف حاميات العدو وطرق تموينه في مالي وتكانت وشرق موريتانيا.
وبسقوط آدرار سنة 1910، انتقلت جماعة الأمير إلى الحوض. كلّف الأمير رجلًين من اهل ادرار كانوا قد استوطنوا الحوض سابقا هما احمد ولد هيبة العمني و أحمد فال ولد أبيطات باستدعاء جميع مهاجري آدرار خاصة المقاومون.
الذين كانوا قد سبقوه إلى الحوض انطلاقا من ظهر ادرار بقيادة محمد محمود ولد أحجور والشريف محمد محمود الملقب النني ولد زيدان الشقيق الاصغر للمجاهد يب ولد زيدان ولد مولاي الزين وابن اخ الشهيد سيد ولد مولاي الزين.
وقد كان هؤلاء قد خاضوا معركة اجوالي تيربان قرب أوجفت ضد مفرزة فرنسية سنة 1909 قبل اختيارهم التوجه شرقًا إلى الحوض والذي كان بناء على اقتراح و معرفة مسبقة من الشريف النني بالحوض حيث تربى في صغرة مع خاله الامير احمد محمود ولد امحيميد.
عند التحاق الامير سيد أحمد بالجماعة التي سبقته للحوض اسس جيشًا كبيرًا توسعت عملياته لتشمل:
الحوضين وأزواد بمالي ( انيور و الأرنب، و“قبة رأس الماء” وتمبكتو وغاو)
وانضم إليه الزعيم البربوشي خليفة ولد سيد أمحمد ولد أمهمد الذي همّشته فرنسا لخشيتها منه.
ومع التقاء المجموعتين اللتان لازالتا تمثلان ماتبقى من مقاومة ادرار تم الاتفاق على تقسيم الأدوار والمحاور إلى جبهتين
فرقة تنشط في الحوض الغربي ولعصابة بقيادة محمد محمود ولد أحجور. وفرقة تنشط في الحوض الشرقي وازواد بقيادة الامير سيد أحمد ولد أحمد عيدة.
معركة اجحافية (12 مايو 1911) — “يوم جمالة كيفة”
دارت في جبال أفله بولاية لعصابة، وقادها محمد محمود ولد سيد لكحل ولد أحجور والشريف النني ولد زيدان.
أُبيدت فيها كتيبة جمالة كيفة بالكامل.
شارك فيها أكثر من 20 رجلًا من أهل آدرار، أغلبهم من: أهل أحجور و أهل التناكي
ومنهم:
عالي ولد أوحيدة – محمد ولد الخيطار – محمد الأمين ولد اعليّة – محمد ولد أبكّه – المختار ولد أبيّاه … وغيرهم.
وفي الوقت نفسه، كان الأمير سيد أحمد يغير على كتيبة جمالة تمبكتو ، وغنموا قافلة ملح تضم 1000 جمل كانت متوجهة لتموين المستعمر في مالي.
وقد تخللت هذه الفترة معارك ومناوشات وغارات استهدفت القوات الفرنسية بجميع عموما السودان الغربي او مالي حاليا.
تضييق الخناق الفرنسي
بعد الهزائم الكبيرة التي تلقّتها فرنسا في الحوض وأزواد، صدرت الأوامر من باريس بضرورة القضاء على المقاومة القادمة من ادرار في تلك المناطق، فتوجه العقيد موري إلى ولاته، وبدأت فرنسا بالاعتماد على تحالفات محلية لمحاصرة المقاومين.
اضطرت قوات الأمير للتحرك نحو ولاتة بعد اشتداد الضغط دون أن تتوقف هجماتهم على تموين المستعمر.
وصول الأمير إلى ولاتة وحادثة الفنان
عند وصول الأمير سيدي أحمد ولد أحمد عيده وجماعته إلى مدينة ولاتة، استقبلهم السكان أحسن استقبال، وأغدقوا عليهم الأموال والمواشي دعماً لمقاومتهم. وفي إحدى المناسبات، حضر فنان ليشكر الأمير، فما كان من الأمير إلا أن أعطاه جملاً نفيساً يعدّ من أفضل جمال الحوض كله.
استغرب أحد الحاضرين هذا الكرم المبالغ فيه – في نظره – وسأل الأمير:
"لِمَ تُعطيه أفضل الهجن، وأمامك ما قدّمه السكان من الهدايا؟"
فأجابه الأمير بجواب يجسد ورعه وعدله:
"هذه الأموال التي يقدمها الناس قد لا تكون عن طيب خاطر، وقد يظنون أننا من أولئك الذين يأخذون أموال الناس بغير رضاهم. أمّا الجمل، فقد أهداه لي ابن عمي، أحمد ولد هيبة وهو ما أملك بحقّ، فأحببت أن أعطيه للفنان."
معركة ولاتة (مفلك لحمار)
وقعت معركة ولاتة الكبرى، المعروفة محلياً بـ "مفلك لحمار"، عندما تقدمت كتيبة فرنسية قادمة من مالي بقيادة كولولن موري. ولم تكن القوة متوازنة، ما دفع المقاومين للانسحاب نحو تشيت.
لكن تشيت كانت نفسها كميناً محكماً، حيث اجتمعت فيها قوات المستعمر القادمة من:
تكانت، لعصابة، اترارزة، لبراكنة، والقوات الكبيرة القادمة من مالي، سابقاً...
معركة تيشيت – 21 يناير 1912
عندما بلغ المقاومون مدينة تشيت، أدرك الأمير سيدي أحمد أنهم في مرمى العدو، وكان بإمكانهم إصابة جزء كبير منه، لكنه آثر الانسحاب حفاظاً على تشيت وأهلها، وهو قرار بطولي لكنه جعله مكشوفاً لقوات المستعمر.
الشهداء والجرحى
استشهد في تلك الوقائع عدد من أبرز المقاومين، منهم:
أحمد ولد ابراهيم ولد مكيه سيدي محمد ولد فيدار إبراهيم ولد اخنافر السيد ولد الغيلاني محمد ولد أعمر من أولاد غيلان ومن أهل التناكي: محمد الأمين ولد سيد ولد اباه ومن أولاد ساسي: اعمر ولد سيد ولد اعمر
ومن أولاد بلحية: الحنفي ولد أحمد مسكة
وجُرح الأمير سيدي أحمد في قدمه.
وبعد أن تركه رفاقه مضطرين، أخذه الكوميات للتنكيل به، لكن أحدهم – واسمه سيد أحمد ولد كنكوا – تعرف عليه، فأبلغ القائد بأن الجريح هو الأمير نفسه.
فأمر الضابط بحمله ومعالجة جرحه، ثم تم نقله إلى سان لويس (اندر) على متن الجرارات(*).
وبعد المعركة، انقسمت جماعة الأمير الى فرقتين:
فرقة اتجهت جنوبا والتحقوا بجماعة ولد احجور، وكان معظمهم من أولاد غيلان:
اعلي ولد أجود – بوبة ولد السلاوي – سيد ولد أمد – محمد ولد بكزان – سيد ولد حاميدة وأخوه سيد أحمد ولد حاميدة.
واتجهت عناصر أخرى شمالاً لتلتحق بجبهة اركيبات.
أما جماعة ولد احجور فاستمرت في نشاطها في الحوض و أزواد حتى توقيع الصلح مع الفرنسيين في النعمة سنة 1916، ذلك الاتفاق الذي قضى باقتطاع أرض لهم في تكانت، فيما عرف لاحقاً بـ كتاب أهل آدرار بتكانت (كتاب عثمان).
سرقة مكتبة تشيت
قام المستعمر بعد دخوله تشيت بالاستيلاء على مكتبتها ومسجدها الجامع، وسرقوا 50 كيساً كبيراً من المخطوطات، وهي حمولة 20 بعيراً، وأرسلوها إلى سان لويس.
ويظل السؤال قائماً اليوم:
هل ستطالب الدولة الموريتانية باسترجاع هذا الإرث العلمي الفريد؟
عودة الأمير إلى الإمارة
بعد أَسْرِ الأمير، نُقِل أولًا إلى تجكجة، ثم إلى المجرية، قبل أن يُرحَّل لاحقًا إلى مدينة سينلوي.
وفي سنة 1913 أُطلق سراحه إثر مفاوضات معقدة قادها الرقيبات مع الحاكم الفرنسي في سينلوي، بوساطة من باب ولد الشيخ سيدي.
وقد اشترط الرقيبات – قبل أي صلح مع المستعمر – إطلاق سراح الأمير وإعادته إلى إمارة آدرار، وهو ما تم بالفعل. وأسهم في إنجاح تلك الوساطة مبلغٌ كبير من الفضة أعطاه محمد ولد الخليل للمترجم ابن المقداد ليبلّغ عنهم بأمانة.
غير أن الأمير، عند إطلاق سراحه، وضع شرطًا مضادًا نصَّ فيه على تمكين بلاد البيظان من حكم أنفسهم بشرع الله. فاستجاب الفرنسيون عبر مذكرة رسمية صادرة عن حاكم سينلوي، تقضي بإنشاء محاكم إسلامية في عموم البلاد، بل وتعميمها حتى على مناطق أخرى في الضفة كشمال مالي. وتم تعيين قضاة في عدة مناطق، منهم:
ولد حبت في شنقيط، وولد برو في آطار، وآخرون في تجكجة وبوتلميت. كما مُنح الأمير صلاحيات واسعة، ورُصدت له ميزانية تصل إلى عشرة أطنان من التمر، مع منحه حق اكتتاب رجال الأمن.
الأمير الأديب:
كان شاعرا باللهجة الحسانية جميل الشعر جيد السبك وعندما جرح في المعركة وتم نقله إلى مستشفى سان لوي ” اندر ” لَبِّطانْ ” كان يأكل وحده وهو الأمير الذي لم يتعود أن يأكل وحده فقال:
مـارتْ عنْـدِ :: عنِّي مگْبـوظْ
نوْكَـلْ وَحْـدِ :: كيفْ أَمَگروظْ
وعند عبوره رفقة الترجمان الأديب محمدن ولد ابن المقداد قنطرة ” صالة ” أهل محمد لحبيب من ” اندر لبيظ” متجهين إلى ” آگْمَيْنِي ” فيرى الأمير دخلة ذات نخيل فيظنها وادا فتشوقه وتذكره الأهل فينشئ :
اتشايير انخل هذا الواد ..
فيقول ولد ابن المقداد : سيد أحمد هاذِ دخله ماهُ واد
فيقول الأمير بسرعة بديهة :
اتشايير انخل هذا الواد = ولَّ زاد الدخلَ لعادْ
ماهُ واد إزيدْ التفكاد=يسوَ گد إل واقع فيه
ء هاذ لرياح ال تتراد =زاد اعليه من إل اغليه
غيراصّ فم ابلد معهود =ماهُ ذ لبلد عالم بيه
إيلَ ما كره فيه اعود = ماهُ لاهِ بعد إغليه.
وفي طريق العودة إلى آدرار يقول الأمير عندما مر على موقع(ايدماتن)
الحمد لله ال أبعاد = أندر أو زين أديار
وأفرق لمحار أوعاد زاد = يور مب بحجار
لعبة الأمير وولد الخليل وتزويد المقاومة بالسلاح
في سنة 1918 اتهم الفرنسيون الأمير بإقامة صلات سرية مع المقاومة في الشمال، بعد هجوم الرقيبات على مواقعهم. وكان الفرنسيون – وفق اتفاق الصلح – يزوّدون الأمير سيد أحمد وشيخ الرقيبات محمد ولد الخليل بالأسلحة، على أن يُبرم الرقيبات الصلح بعد عودة الأمير. غير أن الأمير وولد الخليل كانا يجمعان تلك الأسلحة ويوصلانها إلى المقاومة في الشمال.
وقد اكتشف الفرنسيون ذلك في معركة حفرة وادان حين وجدوا عددًا من أسلحتهم بيد الشهداء من الرقيبات، ففهموا أن ما يجري ليس إلا خطة محكمة نسج خيوطها الأمير وولد الخليل لخداع المستعمر وتغذية المقاومة.
ورداً على ذلك، استُدعي الأمير مرة أخرى إلى اندر، حيث فرض عليه المستعمر إقامة جبرية استمرت سنتين كاملتين.
اغتيال محمد ولد الخليل… سقوط الرفيق
في شهر سبتمبر سنة 1925 أدرك الفرنسيون أن محمد ولد الخليل خدعهم طوال تلك المدة، وأنه لا ينوي الصلح مطلقًا. فدبّروا له مكيدة محكمة، إذ قدموا إليه دراعة مسمَّمة. وما إن ارتداها حتى تورّم جسمه، فنُقل على عجل إلى مستشفى اندر. لكنه استشهد في الطريق قرب بنشاب.
ويروي شاهد عيان أن أحد الضباط الفرنسيين الذين دبروا العملية ألقى نظرة على ساعته وقال ببرود:
«محمد ولد الخليل يموت الآن، لأننا نعلم أن مفعول السم لا يتجاوز 48 ساعة.»
وبذلك فقد الأمير رفيق دربه وذراعه القوي في مواجهة المستعمر.
عودة الأمير الثانية (1920 – 1932): فصل الختام في مسيرة المجد والمقاومة
بعد إطلاق سراح الأمير سيدي أحمد ولد أحمد عيده سنة 1913 وعودته إلى آدرار سنة 1920، وجد أن الأوضاع قد تغيّرت جذرياً؛ فالصلاحيات التي كان يتمتع بها سابقاً قد انتُزعت، وظهرت شخصيات جديدة تعمل تحت الإدارة الاستعمارية، فلم يجد بداً من استئناف المقاومة دفاعاً عن الكرامة والعهد.
ومع مطلع 1932 ابتعد الأمير بحِلّته نحو سهول أمقطير متجهاً شمالاً فيما عُرف لاحقاً بـ الهجرة. فقررت الإدارة الاستعمارية إرغامه على العودة، وأرسلت في 7 مارس 1932 فرقة يقودها الملازم أول موسات. وحين وصل إلى الحلة أبلغ الأمير بأن حاكم دائرة آدرار يريد حضوره «فوراً لأمر مهم».
لكن الأمير قلب الطاولة…
ففي تلك الليلة نجح في استمالة الرقيب أول الشيخ الكوري ولد المشظوفي إلى صفوفه، وتمكّن من التخلص من الضابط الفرنسي كما خطّط.
عملية اغتيال الملازم موسات
في 14 مارس 1932 وضع الأمير وخاصته خطة دقيقة لقتل الضابط. جلس محمد بن أخطور العمني قرب الملازم ينظف سلاحه، وفي لحظة محسوبة صاح حمدي بن الأگرع مخاطباً الأمير:
«أيها الأمير، أرسل أحداً يحضر لنا كبشاً نذبحه».
فأجابه الأمير: «لقد آن الأوان».
كانت هذه هي الإشارة.
فأطلق ابن أخطور النار على الملازم وأصابه، وانقض عليه الأمير فأنهى أمره. ومن ثم تابعت الحلة سيرها شمالاً نحو المجهول… ونحو القدر.
النذير: «ارحل قبل أن يأتوك»
يروي أحد رجالات الركيبات أنه بينما هو يتتبع بعض الأيل وجد حلة الأمير، فنحر لهم جملاً. وحين أخبره الأمير بما جرى مع الكتيبة، قال الرجل محذراً:
«لا أرى أنهم سيتركونك… عليك بالرحيل حالاً».
استعد الأمير للرحيل، لكن والدته عيشة بنت أعلي بن أحمد (اللَّبيّة) كانت تغطّ في نوم عميق، فتراجع احتراماً لها، وكأن القدر كان يمسك بزمام اللحظات الأخيرة من حياته.
معركة القَلب الأخضر – الشهادة والمجد
في فجر 19 مارس 1932 جهزت القوات الفرنسية كتيبة بقيادة النقيب لكوك، ولحقت بالأمير عند القَلب الأخضر قرب وديان الخروب. وهناك وقعت معركة غير متكافئة، لكن الأمير قاتل فيها مقبلاً غير مدبر حتى استُشهد، هو وثُلّة من رفاقه:
سيدي أحمد بن الشيخ ولد عثمان حمدي ولد لكرع محمد البشير ولد اعل فال، بوبالي بن أحمد لعبيد، محمد بن الزيعر،
فره بن أحمد لعبيد (أعبيد أهل عثمان) الشيخ بن أحبيب لبحيحي أولاد غيلان.
أما الجرحى فكانوا:
محمد أحمد ولد أخطور، المختار ولد لقرع، الشيخ الكوري ولد المشظوفي، وأخوه محمد سالم (أولاد عمني).
موقف أمٍّ تساوي جيشاً
ارتكب الضابط لكوك فعلاً شنيعاً لم يُعرف في موريتانيا من قبل؛ إذ أمر بقطع رأس الأمير وحمله إلى والدته. فلما عرض عليها الرأس قال لها:
«هل تعرفين هذا؟»
فأجابته بثبات يليق بأمّ الشهيد:
«نعم… أعرفه بكل فخر.
هو الشهم الذي أباد جنودكم، وأذاقكم طعم الهزائم في تجكجة وإينشيري وآدرار.
واليوم قتلتموه مقبلاً غير مدبر…
لم يفرّ قطّ في معركة، وقد فاز بالشهادة، فالحمد لله على ذلك».
تغيّر وجه الضابط وقال مدهوشاً:
«ما أصلب عود هذه المرأة… إنها لم تُهزم».
استعادة الرأس والقصاص من الجلّاد
كان الجندي السينيغالي صمب يرقص برأس الأمير ويقوم بطقوسه عليه. ورأى رجال من أهل آدرار المشهد المهين، فصبروا حتى جنّ الليل، ثم قتلوا صمب واستعادوا رأس الأمير ودفنوه في موضع مجهول من تيرس، ليحفظوا كرامته في موضع لا يعرفه المستعمر.
أما لكوك، فشعر بأن من حوله لم يعودوا آمنين، فأمر بالانسحاب فوراً نحو أطار دون توقف.
من تيرس إلى دمشق: غرور القوة يفضحه التاريخ
بعد سنوات، يقف العقيد الفرنسي كورو في دمشق فوق قبر صلاح الدين الأيوبي ويطأه بحذائه قائلاً:
«لقد عدنا يا صلاح».
وهي نفس الروح المتكبرة التي قطعت رأس الأمير في آدرار.
لكن التاريخ ردّ على كورو كما ردّت والدة الأمير على لكوك…
وبقيت الوقائع شاهدة على أن:
صلاح الدين مرغ أنوف الصليبيين
والأمير سيدي أحمد مرغ أنوف الفرنسيين في موريتانيا
وكلاهما واجه إمبراطوريات، وقاتل حتى الرمق الأخير.
رحم الله الأمير المجاهد، والأديب، والفارس سيدي أحمد ولد أحمد عيده.
ورحم كل المقاومين الذين سطّروا بدمائهم صفحات الشرف، وتركوا لنا تاريخاً لا يُقدّر بثمن.
خاتمة (للنشر والتوثيق)
يمثّل الأمير سيد أحمد ولد أحمد عيدة أحد أبرز قادة المقاومة في موريتانيا مطلع القرن العشرين، وقد تميّز باستقلالية قراره السياسي، ورفضه الحازم لأيّ شكل من أشكال التدخّل الأجنبي، إضافة إلى قدرته على توحيد القبائل وقيادة حروب عصابات متقدّمة ضد الوجود الفرنسي في آدرار والحوض وأزواد.
وتقدّم هذه المعلومات الحصرية رواية متكاملة تُسهم في سدّ فجوة التوثيق حول سيرته ومسيرته، وتعيد الاعتبار لدور هذا الأمير المجاهد في تشكيل الوعي الوطني المقاوم، بوصفه رمزًا من رموز الصمود والدفاع عن الكرامة والسيادة.
وقبل أن اختم سيرة هذا البطل الشهيد فخر هذه البلاد أود أن أشارك من قرأ هذه السطور لعلي اتلمس الجواب على ثلاثة أسئلة استوقفتني في سيرة حياة هذا الأمير.
اولها: طبيعة التنظيم المستقل الذي كان يحكم هذه البلاد والذي جعل من الأمير سيد أحمد يرفض المشاركة مع ابن عم السلطان في معركة النيملان.!!
وثانيهما: لماذا توجه الأمير سيد أحمد إلى الشرق عندما اشتد عليه الضغط سنة 1910 ولم يتوجه شمالا وهو الأقرب والاكثر إمكانيات انذاك.؟!
وثالثهما: ماطبيعة العلاقة التي كانت تربط الأمير بارقيبات والتي جعلته يواصل السير إليهم؟! بدل التوجه إلى الشمال الغربي حيث أقرب له النجاة وحيث اسبانيا وحدود المغرب!!
المصادر :
مقابلة نادرة مع لالة بنت الأمير سيد احمد ولد احمد عيدة.
منشورات الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير (باحث موريتاني بمركز الجزيرة للدراسات بالدوحة),
موقع صحراء نيوز (بالتصرف).
ا(*).عربات تجرها الخيل كان يستعملها المستعمر.
لمرابط ولد لخديم




