أين المفر؟/ محمد فال ولد سيدي ميله
يقول أحد الفلاسفة انه ثمة أربع طبقات: طبقة حاكمة تتربع فوق القانون، وطبقة غنية (بورجوازية) تشتري القانون، وطبقة متوسطة يسحقها القانون، وطبقة فقيرة يجهلها القانون. لا يهم! لنترك الحبل على غارب الثقافة والفكر، فنحن -كما تصوَّرنا العسكر والسياسيون- مجرد عوام مراهقين: يرفعون في وجوهنا سيفا خشنا سمْجًا فنبكي، ويفتّتون على أفرشتنا الرثة البالية خبزا جافا فنضحك. غير أننا، مع الأخطل الصغير، "نبكي ونضحك، لا حُزْناً ولا فرَحَا/ كعاشق خطّ سطرًا في الهوى ومَحَا". فلا تغتروا بمظاهرنا. إنها خدّاعة. فقط، تحاشوا موتَ الأمل فينا. لأن تاريخ البشرية برهن على أن موت الأمل في تينك الطبقتين (المتوسطة والفقيرة) كارثة حقيقية على من هُمْ فوق القانون وعلى من لا هَمّ لهم غير شراء القانون.
عَوْدٌ على بدء. كذوب هو من يرى أن الفساد والرشوة مرتبطان بنظام سياسي موريتاني معين، ففي بلاد السيبة، أرض التكرور، تُحَدّثنا المرويات أن سيدة أهدت أحد القضاة "بيصَة" كي يطلقها من زوجها، فكتب لها حكما بالطلاق. وما هي إلا أيام حتى ذهب الزوج إلى نفس القاضي وأهداه جمَلا، طالبا حكما منافيا للحكم الأول، فأعاد القاضي الزوجة إلى زوجها بحكم قضائي نهائي. ما جعل الزوجة تتصل بالقاضي مستفسرة، فقال لها إن حكمها الشرعي هو أن تعود لزوجها وإلا فإنها ناشز، فقالت له: وأين البيصة؟ فأجابها: "البيصة مزقها الجمل".
وعندما احتلّنا الفرنسيون، نشروا الرشوة والفساد على نطاق يفوق التصور، فكانوا يرْشون أميرَ المنطقة، و"سَيْفَ" البطن، وشيخ القبيلة، وعالم الحي.. عاثوا في القيّم وجعلوا الناس باعةَ ضمير ووشاة وجواسيسَ مقابل حزمة من التبغ، أو ورقات بيضاء، أو حفنة من الشاي، أو خمسة فرنكات.
ولما تصدقت علينا فرنسا بالاستقلال، في ظل حكم الحزب الواحد، قَلّ مِن الحكام ورؤساء الحرس من نجا من قنينة دهن، أو كبش أبيض، أو فضفاضة من احْمَذَ الحَمْدِي، يهديها له البدو وشيوخ القبائل طلبا لتوقيع، أو إصدار بطاقة ميلاد، أو إطلاق سراح رجل شجّ رأس أمَة بعد شجار عند البئر على الأولوية في ملء القِرَب.
ومع الحكم العسكري، ولجان الإنقاذ والخلاص، وهياكل الخسّة، وديمقراطية القماش، وتوابعها من "الأحزاب الجمهورية"، كانت الطامة الكبرى. لقد ولدت من رحم هذه الأباطيل والترهات أنماط من الفساد والرشوة يعجز عنها الوصف، فدخلت في القاموس الوطني ثقافة نفخ الفواتير، وثقافة إثراء القوّادة والمهرجين بميزانية الدولة، والتسابق الوقح والتباهي الفاجر بشراء الإبل وبناء القصور، وتمكين الزوجات المترفات والأطفال المدللين من قضاء عطل فردوسية في لاس بالماس على حساب دافعي الضرائب من الطبقتين المتوسطة والفقيرة. حتى أن تركة بعض قادة هؤلاء الحكام، ممن قضوا نحبهم، ما تزال تمثل إشكالا لورثتهم، لم يجد حلا حتى اليوم لتشعبها، وكثرة عقاراتها، وتنوع أرصدتها في الداخل والخارج.
إن الفساد عقلية شديدة الغوص في ممارسي السلطة وسدنة السياسة ومفتشيات الدولة والقضاء... وبالتالي لا يمكن القضاء عليه إلا بقلب المنظومة رأسًا على عقب. غير أن الأمر معقد ومترسخ بحيث لا نعرف هل سيكون على السلطة التنفيذية أن تقدم للقضاة لائحةَ من وردت أسماؤهم في تقارير المفتشين ومحكمة الحسابات بغية محاسبتهم؟ وهل بعدها، سيكون على السلطة التنفيذية أن تقدم نفسها للقضاة لمحاسبتها هي نفسها؟ وإذا حاسبوها، هل سيكون على القضاة أن يحاسبوا المفتشين أنفسهم وأعضاء محكمة الحسابات بأسرهم؟ وإذا حاسبوهم، هل سيكون على القضاة أن يحاسبوا القضاة؟.. إنها مغارة مظلمة، وكهف موحش، وغول فاغر فمه، وورطة لا بداية ولا نهاية لها. إذن أين المفر؟ لا أعتقد أنه ثمة مفر إلا بحوار جاد ترى فيه الطبقتان، المتوسطة والفقيرة، نفسيْهما، ويعيد إليهما الأمل الذي بدأ يتلاشى بوتيرة سريعة وخطيرة تحت وقع الفساد الضارب أطنابَه في مختلف القطاعات.. ذلك الحوار الذي لا يقصي أي فاعل حقيقي في المشهد.. ذلك الحوار الذي يتمخض عن اعتراف قانوني بأحزاب محظورة باتت تشكل متنفسا وحيدا لآلاف المواطنين.. ذلك الحوار الذي يضع ألف حساب للمارد الأسود وللظاهرة البيرامية الموجودة بفعل الواقع وبقوة الأصوات.. ذلك الحوار الذي يُسفر عن إصلاحات عقارية وقانونية حقيقية تنهي إقطاعية القبائل وترمي بها، غير مأسوف عليها، في مزبلة التاريخ.. ذلك الحوار الذي ينصف ضحايا الرق والتفاوتات العرقية السحيقة.. ذلك الحوار الذي يضم الفلّانَ بين ذراعيه، ويمسح دموعهم الساهمة الشجية الحزينة، ويجبر أعطابهم المؤلمة، ويعيدهم، مستبشرين، إلى الحضن الوطني وإلى دفء الأخوة والتصالح.. وبكلمة واحدة، ذلك الحوار الذي يغلق قوسا جهنمية فتحتها عقود وعقود من الحيف، والظلم، وإهانة قيّم العدل، والدوس على مبادئ المواطنة.
محمد فال ولد سيدي ميله




