رحم الله مستن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف: الملك المظفر كوكبري

عكسا لما روجه المبتلون بالجراءة على الجناب النبوي وزجر المسلمين عن الاحتفاء بمولده، بخصوص ربط ما يسمونه "بدعة الاحتفال بالمولد" بالشيعة الفاطميين، فإن أول من شهر أمر الاحتفال بالمولد النبوي بين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة هو أمير "إربيل" الملك العادل السني الزاهد مظفر الدين كوكبري رحمه الله تعالى وهو الذي ذكره وأشاد به عاليا علامة العصر ومفتي المصر بلا منازع الامام المجدد الشيخ محمد الحسن بن أحمدو الخديم الجوادي اليعقوبي الشنقيطي حفظه الله تعالى في داليته الشهيرة التي لم يسبق لها والتي سبق وأن عنونتها بـ"القصيدة الغراء في جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف"، وهي الدالية التي حسمت الكلام في المولد النبوي وذلك في قوله:
تعظيمُ مولده أجرى به عملاً
من الهــداة ذوو رُشدٍ وإرشاد
وملك اربل بعض الصالحين قفا
فيه وكان من الافراد الاجواد
وذلك العلما رضوه اذ حضروا
لانه عادل ما هو بالعادي
وهي القصيدة التى لا يسعني إلا أن أشرك القارئ فى مقتطفات منها :
أيام شهرِ ربيعِ الأولِ البادي
سرُّ الوجودِ به أيامُ أعيادِ
أيامُ أعياد إسلامٍ ذووه بها
سُرّوا كما سِيء ذو زيغٍ والحاد
إن المحبّ لفي وادٍ يهيمُ كما
سوى المحبِّ يهيم الدهرَ في واد
مدحُ النبي دليلُ الحبِّ مبغضُه
مُضنى الفؤادِ بما يُخفي من احقاد
وليس من خاله سُدىً يَلذُّ له
إعمارُ وقت بأحزابٍ وأوراد
ولا لأحوالِ أهل الذكر مغتبطٌ
ولا لروضته الغنّـــا بمرتاد
شهرُ الربيع ربيعٌ للقلوب له
ترتاح ممن دروْا بسر الايجاد
فالناسُ ما بين محزونٍ ومبتهجٍ
بعيد مولد طه ذي الجدى الجادي
يَشدو الشجيُّ على رغم الخليِّ به
أمداحَ طه بإنشاءٍ وإنشاد
قد كان ميلادَ خير شهرُ مولده
وإنّ ميلادَ خير خيرُ ميلاد
ومُذهباً ترحـاً ومُكسبـــا فرحــاً
ففيه راحةُ أرواحٍ وأجســـاد
يا مسلمونَ استهلّ اليومَ عيدُكم
فعاد يُمنٌ إليكم رائحٌ غـــاد
دمتمْ يعود عليكمْ من ســـعادتِكمْ
في كل عامٍ بإســـعافٍ وإســـعاد
تحدثوا بحديثٍ عنــه يطــربكمْ
واستنشقوا منه عرفَ الرّندِ والجادي
وأكثروا قُرباً وأظهروا طرباً
شــكرا لنعمــةِ إيجادٍ وإمــداد
وظــاهرَ الشـــرع ثنـُّـوه بباطنــه
جمعــاً وتثنيةً من دون إفراد
فعظِّموه وجدُّوا في توســلكمْ
سيرا بســـيرة آبـــاءٍ وأجــداد
إن التوسل بالهادي من انكـره
قال الوزاني انزوى عن مِلّة الهادي
إذ ذا من الدين بادٍ بالضرورة ما
إن هوّ يَخفى على المصري والبادي
وقال ابن كثير في البداية والنهاية في سيرة المظفر كوكبري: "وكان يَعمَلُ المولِدَ الشريفَ في ربيعٍ الأوَّل، ويحتفِلُ به احتفالًا هائلًا".
وقال في وصف بعض مظاهر هذا الاحتفال: "حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين صحن حلوى.
ولمن لا يعلم مستن هذه السنة الحسنة ، فهو السلطان الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين ابن محمد التركماني، أحد الملوك الذين كان ملكهم عزًا للإسلام والمسلمين، وكان له أعمال جليلة وآثار حسنة منها أنه أول من احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يوزع فيه الأعطيات والهبات على المسلمين إظهارًا لفرحه بالنبي الخاتم سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وولد الملك المظفر في إربل وهي قلعة حصينة ومدينة كبيرة من أعمال الموصل تبعد عنها مسيرة يومين ليلة السابع والعشرين من محرم سنة خمسمائة وتسع وأربعين للهجرة وتملك إربل بعد وفاة والده وهو مراهق كان له أربع عشرة سنة.
وكان مظفر الدين من أكثر الملوك تدينًا وأجودهم وأكثرهم برًا، وكان عالـمًا تقيًا شجاعًا. قال فيه ابن خلكان: «وأما سيرته فكان له في فعل الخير عجائب لم نسمع أن أحدًا فعل في ذلك مثل ما فعله".
وذكر ابن خلكان عنه أيضًا: «أنه كان متواضعًا، خيرًا يحب الفقهاء والمحدثين وربما أعطى الشعراء، وما نُقل أنه انهزم في حرب.
وأول من أحدث الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع لهذا كثيرًا من العلماء، فيهم من أهل الحديث والصوفية الصادقين، فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها كالحافظ أحمد بن حجر العسقلاني وتلميذه الحافظ السخاوي، وكذلك الحافظ السيوطي.
يقول الشيخ عبد الله صديق الغماري من علماء الأزهر :
للحافظ جلال الدين السيوطيّ كلام قيم في هذا الموضوع نلخصه فيما يأتي، قال رحمه الله:
إن أصلَ عمل المَوْلِد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تَيَسَّر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما وقع في مَوْلِده من الآيات، ثم يُمَدّ لهم سماط يأكلونه، وينصرفون من غير زيادة على ذلك ـ هو البِدَع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لِما فيه من تعظيم النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهار الفرح والاستبشار بمَوْلِده الشريف.
وأول من أحدث فعل ذلك صاحب “إربل” الملك المُظَفَّر أبو سعيد كُوكبَري بن زين الدين عليّ ابن بُكْتُكِين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عَمَّر الجامع المظفَّريّ بسفح قاسيون.
قال ابن كثير في تاريخه:
كان يعمل المَوْلِد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالًا هائلًا، وقد صَنَّف له الشيخ أبو الخطاب بن دِحية مجلدًا في المَوْلِد النبويّ سمَّاه “التنوير في مَوْلِد البشير النذير” فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في المُلْك إلى أن مات وهو مُحاصِر للفرنج بمدينة عكا سنة 630هـ محمودَ السيرة والسريرة.. إلى أن قال:�وحَكَتْ زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أختُ الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم، قالت: فعاتبتُه في ذلك فقال: لُبس ثوب بخمسة والتصدقُ بالباقي خير من أن ألبس ثوبًا مثمَّنًا وأدَعَ الفقير والمسكين.
وقال ابن خَلِّكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب بن دِحية:
كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، قَدِمَ من المغرب فدخل الشام والعراق واجتاز بإربل سنة 604هـ فوجد ملكَها المُعَظَّم مظفَّر الدين بن زين الدين يَعتني بالمَوْلِد، فعمل له كتاب “التنوير في مَوْلِد البشير النذير” وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار.
وقد تكلم أبو عبد الله بن الحاج في كتابه “المدخل على عمل المَوْلِد” فأتقن الكلام فيه جدًّا، وحاصلُه مدحُ ما كان فيه من إظهار شعارٍ هو شكرٌ، وذم ما احتوى عليه من مُحَرَّمات ومُنْكَرات، فمن ذلك قوله: وإن كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَزِدْ فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته ورفقه بهم؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يترك العمل خشيةَ أن يُفْرَض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الإثنين: “ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه” فتشريف هذا اليوم مُتَضَمِّن لتشريف هذا الشهر الذي وُلِد فيه، فينبغي أن نحترمَه غايةَ الاحترام ونُفَضِّلَه بما فَضَّل الله به الأشهر الفاضلة، وهذا منها لقوله صلى الله عليه وسلم: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونَه تحت لوائي”. وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خَصَّها الله به من العبادات التي تُفْعَل فيها لِما قد عُلِمَ أن الأمكنة والأزمنة لا تَشْرُف لذاتها وإنما يَحْصُل لها التشريف بما خُصَّتْ به من المعاني، فانظر إلى ما خَصَّ الله به هذا الشهر الشريف ويوم الإثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم لأنه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ فيه. فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يُكَرَّم ويُعَظَّم ويُحْتَرم الاحترام اللائق به اتباعًا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كونه كان يَخُصُّ الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البِر فيها وكثرة الخيرات.
ألا ترى إلى قول ابن عباس: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان. فلنمتثلْ تعظيمَ الأوقاتِ الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا.
فإن قال قائل: قد التزم النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد عُلِم، ولم يَلْتَزِم في هذا الشهر ما التزمه في غيره.
فالجواب أن ذلك لِما عُلِم من عاداته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه. ألا ترى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حَرَّم المدينة مثلما حَرَّم إبراهيمُ مكة، ومع ذلك لم يَشْرَع في قتل صيده ولا شجره الجزاءَ تخفيفًا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته، وإن كان فاضلاً في نفسه، فيتركه تخفيفًا عنهم.
فعلى هذا تعظيمُ هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القُرُبات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يَحْرُم عليه، ويَسْكُن له تعظيمًا لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبًا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احترامًا، كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرام اهـ.
وقد سُئِلَ شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر عن عمل المَوْلِد فأجاب بما نصه:�أصل عمل المَوْلِد بدعة لم تُنْقَل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابع التابعين ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسنَ وضدِّها، فمن تَحَرَّى في عملها المحاسن وتجنَّب ضدَّها كان بدعةً حسنة وإلا فلا.
قال الحافظ السيوطيّ: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى. فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نِقْمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سَنَة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأية نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ نبيّ الرحمة في ذلك اليوم.
وأما احتفال الملك المظفر بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به، فكان يعمله في كل سنة، مرة في الثامن من شهر ربيع الأول ومرة في الثاني عشر لأجل الاختلاف الذي في تاريخ المولد، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا يزيد على الوصف وزفّها بجميع ما عنده من الطبول حتى يأتي بها الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة.
وكان ينفق أموالاً جزيلة، وقد جمع له ابن دِحية «كتاب المولد» الذي سماه " كتاب التنوير في مولد البشير النذير"، فأعطاه ألف دينار.
قال ابن خلكان: «مات ليلة الجمعة في الرابع عشر من رمضان سنة ثلاثين وستمائة، وحُمل في نعش مع الحجاج إلى مكة، وكان قد أعد قبة تحت جبل يدفن فيها، فاتفق أن الوفد رجعوا تلك السنة لعدم وجود الماء فدفن بالكوفة رحمه الله تعالى عن عمر اثنتين وثمانين سنة».
إنه أحد الملوك الأتقياء الأنقياء الأجواد، ابتدع الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم إظهارًا لفضله، فكان ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أجورهم شىء»... الحديث
رحم الله الملك المظفر ونفعنا به وبأمثاله.
وهنا لايسعنا في الختام إلا أن نستعير فيه مقولة أحد أسلافنا العلامة الأريب محمد يحيى بن أبوه الموسوي اليعقوبي رحمه الله تعالى راثيا أحد جهابذتنا الأعلام:
سقى الله قبرا حله الجود والمجد
شآبيب لا برق لهن ولا رعد
شآبيب رحمى لا تزال مقيمة
على ذلك المثوى تروح كما تغدو.
بقلم: محمد سالم ولد محمد اليعقوبي
كاتب، وباحث في قضايا الصحراء الكبرى