الجمعة
2025/06/20
آخر تحديث
الخميس 19 يونيو 2025

رحلة العقل إلى خالقه: من الفطرة إلى المجرة… ومن المجرة إلى السجود!

26 مايو 2025 الساعة 16 و00 دقيقة
رحلة العقل إلى خالقه: من الفطرة إلى المجرة… ومن المجرة (…)
لمرابط ولد لخديم
طباعة

كلما تساءلت البشرية عن سرّ وجودها، وعن غايتها في هذه الحياة، كانت الإجابة تنبع من داخل الإنسان قبل أن يلتفت إلى الخارج؛ فالفطرة السليمة تهمس له بأن لهذا الكون خالقًا، وأن لحياته معنى، وأنه لم يُخلق عبثًا.
وحين يتحرر العقل من ضغط الشهوات وتضليل الأهواء، يدرك أن وجود المخلوق لا بد له من خالق، وأن هذا النَّظْم المعجز لا يصدر إلا عن حكيم عليم. وتبدو تجليات هذا الإدراك جليةً في مشاهد التأمل الكوني، الذي يقود إلى الإيمان: من المجرات التي تسير بنظام بالغ الدقة، إلى المواقيت الكونية، وسرعة الضوء، وعالم الذرة، والتوازن المحكم بين الإلكترونات والبروتونات… كل ذلك يشير إلى هندسة علوية، وضبط دقيق، وسُنن لا يمكن أن تكون وليدة المصادفة.
لهذا السبب، كان الإنسان ولا يزال في تطلعه إلى خالقه، يتساءل أمام روعة الكون:
ما هذه السماء؟ وما تلك النجوم؟ وما أبعادها وأنساقها؟ كيف تشرق الشمس وتغيب؟ ولماذا لا تختل مواعيدها؟ وأيُّ قانونٍ يسير هذا النظام العجيب دون تفاوت أو خلل؟
يرفع بصره ويتأمل، فيمتلئ قلبه وعقله بنور مشترك، كأن الصور والمعاني تصبُّ في شعور واحد يقوده إلى أن وراء هذا النظام يدًا واحدة، وقدرة واحدة.
لقد كشف العلم الحديث عن عجيب صنع الخالق في النبات والحيوان والإنسان، وكلّها ـ على تنوعها ـ تخضع لسنن متناسقة، تدل على وحدة المصدر، ووحدة الهدف، ووحدة المدبر الحكيم.
واليوم، توصّل العلماء إلى توحيد المادة، وأثبتوا أن أصل المعادن واحد، وأن العلاقة بين الأرض والسماء محكومة بقوانين موحدة، وأن من صمّم عين الإنسان وعدستها هو نفسه من صمّم الشمس وأشعتها، وكأن البصر والشمس خُلقا في نسق واحد لحكمة واحدة.
ثم توسّعت الاكتشافات، فانتقل الإنسان في نظره من الذرة إلى المجرة، ومن جسيم لا يُرى، إلى نقطة كونية تبعد أكثر من 9.46 تريليون كيلومتر (وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة)، مما زاد العقل دهشةً وخشوعًا أمام عظمة الخالق، وسعة قدرته، ودقة صنعه.
لكن العقل، مهما بلغ من الإدراك، يظل محدودًا، عاجزًا عن بلوغ كثير من الحقائق الكُبرى أو تفسير الغايات النهائية للوجود. وهنا تظهر الحاجة إلى الوحي: فكما أن المحدود لا يستطيع أن يصل إلى غير المحدود، شاء الله أن يتصل بنا هو، فأرسل الرسل، وأيّدهم بالآيات والمعجزات.
جاء موسى، ثم عيسى، ثم جاء محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين، ومعه معجزة خالدة تتحدى الزمان والمكان والعقول: القرآن الكريم.

إعجاز القرآن بين التحدي الإلهي والعجز البشري
جاء القرآن معجزة متجددة، لا تتوقف، تعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاته، وبربه، وبالكون من حوله. لم يكن نصًا لغويًا فحسب، بل خطابًا إلهيًا يجمع بين البيان، والتشريع، والروح، ويخاطب الفطرة والعقل والضمير.
وليس من المنطقي أن يُنسب القرآن لأي مصدر بشري:
أما العرب، وهم أهل الفصاحة والبيان، فقد كانوا أوّل من تحدّاهم، فعجزوا عن معارضته رغم محاولات بعضهم كابن المقفع وأمية بن أبي الصلت.
وأما غير العرب، فأنّى لهم أن يأتوا بمثل بلاغته وهم لا يجارون العرب في لسانهم؟
وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد شهد له العدو والصديق أنه أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب، نشأ في بيئة أمية، ثم جاء بهذا الكتاب المعجز الذي تجاوز عصره وتنبأ بمآلات لم تخطر على بال.
هذه الاستحالة الثلاثية تشكّل دليلاً عقليًا على المصدر الإلهي للقرآن الكريم.

ما هو القرآن؟
القرآن الكريم هو كلام الله، المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة جبريل عليه السلام، بلسان عربي مبين، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المعجز بألفاظه، الموجود بين دفتي المصحف، المبدوء بالفاتحة، المختوم بسورة الناس.

خصائص القرآن الكريم:
1. إعجاز ذاتي: لا يحتاج إلى إثبات خارجي، بل هو معجزة في ذاته.
2. تنزيل إلهي: ليس من تأليف محمد، بل وحي نزل عليه عن طريق جبريل.
3. التعبد بتلاوته: جزء من العبادة، ولا تصح الصلاة إلا بقراءته.
4. النقل بالتواتر: رواه جمع عن جمع، بما يستحيل معه الكذب أو التحريف.

أين يكمن الإعجاز؟
يرى جمهور العلماء أن الإعجاز ذاتي، في بلاغته، وروحه، وأسلوبه، ومحتواه. لا يُقارن بأي نص آخر، ولا يشبه أساليب البشر، مهما بلغوا من البيان.
أما القول بأن الله صرف الناس عن الإتيان بمثله (الصرفة)، فهو مرفوض؛ لأن الإعجاز حينها يكون في المنع لا في النص. وقد حاول العرب معارضته فعجزوا، مما يثبت أن التحدي حقيقي، والإعجاز أصيل.

التحدي مستمر
القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو هو، منذ أكثر من 1400 سنة، لم يتغير. ومع تطور العلم ونضج العقول، لم يفلح أحد في الإتيان بعشر سور، ولا حتى بسورة، تماثله. قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24]. مابين لم النافية في الماضي ولن النافية في المستقبل يتحدى القرآن البشرية..
فلو كان كلام بشر، لكان في طاقة البشر. ولكن القرآن ليس نصًا تاريخيًا جامدًا، بل معجزة خالدة، تزداد تألقًا كلما تعمق الفهم، واتسعت العلوم.
هو دستور حياة، ومعجزة عقل، ونور قلب، يتحدى، ويهدي، ويثبت أنه من عند الله:
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 192–194].

القرآن... الرسالة التي انتظرها العقل، واستراح لها القلب، وسجد لها الوجدان.
لقد جاء القرآن مهيمنًا على العلم، لا يصادمه بل يسبقه.
جاء متوازنًا لا يشتط في العاطفة ولا يجف في العقل. وجاء بمنهج عملي يربط بين الإيمان والسلوك.
وإذا عرفتَ الله... فالصلاة أول الطريق عندها فقط، نفهم لماذا كانت الصلاة أول ما فرض من العبادات، وأعظم ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة.
قال العلامة البوطي رحمه الله:
"لقد فرضت الصلاة دون غيرها من العبادات في السماوات العلا، بينما سائر الأحكام نزل بها جبريل إلى الأرض… لأن الصلاة صلة خاصة بين العبد وربه، لا تحتاج إلى وسيط. فكلما سجد الإنسان، اقترب من الله، وكلما خفَّت عليه الصلاة، دل ذلك على ضعف صلته بربه."
الصلاة ليست مجرد طقس تعبدي، بل هي صلة بين المخلوق وخالقه، بين العابد والمعبود، بين الإنسان والكون.
وهي التجسيد العملي لمعرفة الله، والا متثال لأمره، والركوع أمام عظمته، والسجود بين يديه، وطلب للهدى منه وحده.
وحين نقرأ في القرآن: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ، [طه الآية: 14] نعلم أن غاية الصلاة ليست الحركات، بل الذكر، واستحضار الحقيقة الكبرى: أن لنا ربًّا خلقنا، ويهدينا، ويرزقنا، ويحاسبنا، ويُحب أن نناجيه.
فإذا علم الناس هذا، لو علموا من هو الله، ومن هو محمد، وما هو القرآن، وما هي الصلاة، لما ضيعوا ركعة، ولا أخروا سجدة، ولا قصروا في فرض.
لكن الغفلة كبيرة، والشهوات كثيرة، والتشويش عظيم، ومع ذلك، يبقى نور الفطرة ساطعًا، والعقل الصادق دليلاً، والقرآن هاديًا، والصلاة مفتاح كل ذلك.
في زمن العجز البشري أمام تعقيد الوجود، وعجز الفلسفات والماديات أمام قلق الإنسان، تبقى الصلاة الملاذ الآمن، والدليل الحيّ على أن الإنسان لم يُخلق عبثًا.
فإذا عرف الانسان ربه، فلا طريق أقرب إليه من سجدة بين يديه. يعترف فيها بعجزه، ويطلب فيها هدايته، ويذكر فيها غايته.هنا، يسجد القلب قبل الجسد، وتستكين الروح قبل الجوارح، ويهمس العقل بيقينٍ: لا إله إلا الله. محمد رسول الله.
حين يتحرر العقل من أوهام الهوى وأغلال العادة، ويصغي لصوت الفطرة الصافية، يبدأ رحلته الحقيقية نحو خالقه. هذه الفطرة التي فُطر الناس عليها هي البوصلة الأولى، التي تهديه إلى التساؤل، ثم إلى التأمل، فالإيمان. وحين يفتح العقل عينيه على الكون، ويرحل ببصره من الذرّة إلى المجرة، ومن قطرة الماء إلى أعماق السماء، تتكشف له لغة مذهلة لا ينطق بها إلا الإبداع… ولا يُفسرها إلا وجود الخالق.
في عمق هذا التأمل، لا يقف العقل عند حدود المادة، بل يتجاوزها إلى ما وراءها، ليشهد نُظُمًا دقيقة تحكم الوجود، ومقاييس مضبوطة يستحيل أن تكون وليدة الصدفة أو العبث. هناك، بين المجرات السابحة، والكواكب الدائرة، والخلية النابضة بالحياة، يتجلّى توقيع الخالق في كل تفصيل… فتخضع النفس، ويسجد القلب قبل الجبهة.
ليست هذه الرحلة ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. فكلما ابتعد الإنسان عن فطرته، غرق في متاهات العدم والضياع، وكلما اقترب منها، ازداد يقينًا وسلامًا. وإنّ أسمى مراحل هذه الرحلة أن يكتشف العقل عجزه عن الإحاطة، فينحني خاشعًا، ويسجد عرفانًا… إذ لا يكون العقل عاقلًا حقًا حتى يذعن للحق، ولا تكون الفطرة حية حتى تنبض بالتسليم لخالقها.
إنها رحلة تبدأ من الداخل… من سؤال يولد في أعماق النفس: من أنا؟ ماهذا الوجود؟ وتمتد حتى أقاصي الكون… لتجد الجواب هناك في السجود: "سبحانك، ما خلقت هذا باطلًا، فقنا عذاب النار."

لمرابط ولد لخديم