الأحد
2025/12/14
آخر تحديث
الأحد 14 دجمبر 2025

النزعة الإنسانية بين عباس محمود العقاد وجورج برنارد شو

منذ 2 ساعة
النزعة الإنسانية بين عباس محمود العقاد وجورج برنارد شو
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
طباعة

كانَ الكاتبُ المِصْرِيُّ عباس محمود العَقَّاد ( 1889 _ 1964 ) يَرى أنَّ الإنسانَ مَخلوقٌ مَفطورٌ على التَّفكيرِ ، لَيْسَ لَهُ أهمية إلا بِقَدْرِ مَا يُمارِس مِنْ حُرِّيةِ عَقْلِه . فالحُرِّيةُ عِندَه لَيْسَتْ مُجرَّد حَقٍّ سِياسيٍّ أوْ شِعارٍ اجتماعيٍّ ، بَلْ هِيَ شَرْطُ الوُجودِ الإنسانِ نَفْسِه .
والعَقَّادُ دائمُ البَحْثِ عَن الجَوْهَرِ الإنسانيِّ الذي تَتداخلُ فيه قُوى العَقْلِ والضَّميرِ والإرادةِ ، لذلك كانَ شَديدَ النُّفُورِ مِنَ الاستبدادِ العَقْلِيِّ، سَواءٌ جاءَ في صُورةِ مَذْهَبٍ ماديٍّ يُلْغِي الرُّوحَ ، أوْ تَيَّارٍ صُوفيٍّ يُلْغِي العَقْلَ، أوْ سُلطةٍ سِياسيةٍ تُلْغِي الإرادةَ . كُلُّ مَظْهَرٍ مِنْ هَذه المَظاهرِ عِندَه طَعْنَةٌ في قَلْبِ الإنسانِ . ولعلَّ هَذا مَا جَعَلَ أُسلوبَه يَتَّسِمُ بالجِدِّيةِ والصَّلابةِ ، فالعَقَّادُ في دِفَاعِهِ عَن الإنسانِ مُقَاتِلٌ فِكريٌّ لا يَعرِف المُهَادَنَةَ .
أمَّا الكاتبُ الأيرلندي جورج برنارد شو ( 1856 _ 1950 / نوبل 1925 ) فَهُوَ لا يَتعاملُ معَ الإنسانِ بِوَصْفِهِ مِثَالًا عقليًّا ثابتًا ، بَلْ بِوَصْفِهِ دراما حَيَّة ، يَتقلَّب بَيْنَ الخَيْرِ والشَّرِّ ، والحِكمةِ والتَّهْريجِ ، والسُّمُوِّ والسُّخْفِ . غَيْرَ أنَّ هَذه المُفارَقات لَمْ تَدْفَعْهُ إلى اليأسِ مِنَ الإنسانِ ، بَلْ إلى الإعجابِ بِما يَملِك مِنْ قُدرةٍ دائمةٍ على النُّهُوضِ مِنَ الفَوْضَى .
كانَ شو إنسانيًّا لأنَّه رَأى أنَّ الإنسانَ أعظمُ مِنَ القُيودِ الاجتماعية التي تُلبِسه الأقنعةَ ، وأذكى مِنَ الخُرافاتِ التي تُكبِّله ، وأقوى مِنَ الأوهامِ التي تُحاصِره . وَهُوَ يَدعو ، بلهجته اللاذعةِ ، إلى تَحريرِ الإنسانِ مِنْ عُبوديةِ التقاليدِ ، وجُمودِ المُؤسَّساتِ ، لا لِيَجْعَلَ مِنْهُ بَطَلًا مِثاليًّا ، بَلْ لِيَمْنَحَهُ الحَقَّ في أنْ يَكُونَ نَفْسَه ، عَلى الرَّغْمِ مِنْ عِلَّاتِهِ ومُشكلاتِه وتناقضاتِه . ولعلَّ أعمقَ جوانبِ النَّزْعَةِ الإنسانيةِ عِندَ شو إيمانُهُ بأنَّ التَّغْييرَ الاجتماعيَّ لا يَحْدُثُ عَبْرَ تَجميلِ الواقعِ ، بَلْ عَبْرَ الصَّدْمَةِ الفِكريةِ التي تُوقِظ العَقْلَ مِنْ سُبَاتِه ، وَلَوْ بالتَّهَكُّمِ المُرِّ والسُّخْريةِ المَريرةِ والكوميديا السَّوْدَاءِ .
وعَلى الرَّغْمِ مِن اختلافِ النَّبْرَةِ بَيْنَ العَقَّادِ وشو ، فالأوَّلُ جادٌّ صُلْب ، والثاني ساخرٌ لاذعٌ ، إلا أنَّهما يَلْتقيان في نُقْطَةٍ جَوهرية ، وَهِيَ رَفْضُ اختزالِ الإنسانِ في قَالَبٍ ضَيِّق . فالعَقَّادُ يَرفُضُ أنْ يُخْتَزَلَ الإنسانُ في المَذهَبِ الماديِّ أو السُّلطانِ السِّياسيِّ أو التقاليدِ التي تُفَرِّغُ العقلَ مِنْ حُرِّيته . وشو يَرْفُضُ أنْ يُخْتَزَلَ الإنسانُ في الطاعةِ العَمْياءِ ، والمَسرحياتِ الاجتماعيةِ التي تَفْرِضُها الطَّبَقَاتُ والسُّلُطاتُ والمُعْتَقَدَاتُ المَوْرُوثة . كِلاهُما يَثُورُ على النَّمَطِ الواحدِ الذي يَشُلُّ رُوحَ الإنسانِ ، وكِلاهُما يَقِفُ إلى جانبِ الإنسانِ الفَرْدِ لا الإنسانِ النَّمَطِيِّ .
هَذا الالتقاءُ لا يُلْغي الاختلافَ ، بَلْ يُضِيئُه . العَقَّادُ يَتَّخِذُ مِنَ العَقْلِ حِصْنَه الأوَّلَ ، وشو يَتَّخِذُ مِنَ السُّخْريةِ سِلاحَه الأمضى . العَقَّادُ يَكتبُ كَمَنْ يَضَعُ لَبِنَةً في بُنْيَانٍ فِكريٍّ مُتماسِك ، وشو يَكتبُ كَمَنْ يَضَعُ مِرْآةً تَكشِف للمجتمعِ وُجوهَه المَخْفِيَّة . ومعَ ذلك، فَكِلاهُما يَنتهي إلى رَفْضِ تَسْليعِ الإنسانِ ، أوْ تَدجينِه ، أوْ تَحويلِه إلى آلَةٍ .
يَنْبُعُ اختلافُهما العميقُ مِنْ مُنْطَلَقٍ أُسلوبيٍّ وثقافيٍّ . العَقَّادُ مُفكِّر عَرَبيٌّ إسلاميٌّ يَرى الإنسانَ مِنْ خِلالِ وَحْدَةِ العَقْلِ والرُّوحِ ، ويَمْنَحُه بُعْدًا أخلاقيًّا مُتَسَامِيًا ، حتى حِينَ يَتناولُ السِّيرةَ البَشَرِيَّةَ في سِياقاتٍ تاريخية . وشو كاتبٌ أُوروبيٌّ عَلْمَانيُّ النَّزْعَة ، يَرى الإنسانَ مِنْ خِلالِ صِرَاعِه معَ المُجتمعِ والسُّلطةِ والعُرْفِ،ويَمْنَحُه بُعْدًا واقعيًّا ساخرًا. هَذا الاختلافُ يَنعكِس في طَريقةِ تَصويرِهما للإنسانِ . عِندَ العَقَّادِ ، الإنسانُ مَشروعُ ارتقاءٍ مُستمر ، وعِندَ شو ، الإنسانُ مَشروعُ نَقْدٍ مُستمر .
في أعمالِ العَقَّادِ ، تَتجلَّى النَّزْعَةُ الإنسانيةُ في الدِّفاعِ عَنْ حُرِّيةِ الفِكْرِ ، وَدِراسةِ العُظَمَاءِ باعتبارهم قِمَمًا إنسانية تُحْتَذَى ، وتَمجيدِ الإرادةِ الفَرديةِ التي تَصْنَعُ التاريخَ .
وفي مَسرحياتِ شو ومَقالاتِه ، تَتجلَّى النَّزْعَةُ الإنسانيةُ في الثَّورةِ على التقاليدِ ، وكَشْفِ التناقضاتِ الاجتماعيةِ ، والدِّفاعِ عَن الطَّبَقَاتِ المُهَمَّشَةِ ، والهُجومِ على النِّفَاقِ السِّيَاسِيِّ والدِّينيِّ .
كانَ العَقَّادُ إنسانيًّا بِمَعنى الدِّفاعِ عَنْ قِيمةِ الإنسانِ ، وكانَ شو إنسانيًّا بِمَعنى كَشْفِ حَقيقةِ الإنسانِ . وَبَيْنَ القِيمةِ والحَقيقةِ ، تَتشكَّل مَدرستان مُتكاملتان في رُؤيةِ الإنسانِ رُوحًا وَجَسَدًا .
ويُمكِن جَمْعُ النَّزْعَةِ الإنسانيةِ عِندَ العَقَّادِ وشو في صِيغةٍ واحدةٍ قائمة على تَصَوُّرٍ واحدٍ ، وَهُوَ أنَّ الإنسانَ عَقْلٌ حُرٌّ وَضَميرٌ يَقِظ ، لكنَّه أيضًا مَخلوقٌ يَبحثُ عَنْ ذَاتِه بَيْنَ مُفَارَقَاتِ الحَياةِ .
العَقَّادُ يَمنحُ هَذا الإنسانَ جَنَاحَيْن : العَقْل والحُرِّية . وشو يَمْنَحُهُ مِرْآةَ الوَعْيِ والقُدرةَ عَلى الضَّحِكِ مِنْ نَفْسِه . وَمِن اجتماعِ هَذَيْن الجَنَاحَيْن والمِرْآة ، يَتكوَّن مَفهومٌ إنسانيٌّ أكثرُ نُضْجًا : إنسان قادر على صَوْنِ كَرامته ، وَنَقْدِ ذَاتِه ، وتَجاوزِ حُدودِه .
إنَّ النَّزْعَةَ الإنسانية بَيْنَ العَقَّاد وشو لَيْسَتْ مُجرَّد مُقارَنةٍ بَيْنَ مُفَكِّرَيْن ، بَلْ هِيَ مُقارَنة بَيْنَ ثقافَتَيْن تَتكاملان في رَسْمِ مَلامحِ الإنسانِ الحَديثِ مَعنويًّا وماديًّا . العَقَّادُ يُشيِّد بُنْيانًا عقليًّا راسخًا يُدافِع عَنْ حُرِّيةِ الفَرْدِ وَسُمُوِّهِ الرُّوحيِّ ، وشو يَفتحُ نوافذَ النَّقْدِ الساخرِ على المُجتمعِ ، لِيَكْشِفَ هَشَاشَتَه وَطَاقَتَه في آنٍ معًا . وَبَيْنَ البِناءِ والنَّقْدِ ، والجِدِّ والسُّخْرية ، تَتَّضِح الصُّورة ، وَتَتَبَلْوَر الرُّؤية ، وَيَكتمِل المَعنى : الإنسان مِحْوَرُ الفِكْرِ ، وغايةُ الإبداعِ ، وَسُؤالٌ لا يَنتهي ، لأنَّه الكائنُ الذي يُفَتِّشُ عَنْ ذَاتِه ، وَهُوَ يَعِيشُ مَعَهَا ، وَيَمْشِي مُثْقَلًا بالأسئلةِ ، وَيَتْرُكُ في كُلِّ فِكرةٍ أثَرًا مِنْ رُوحِه .

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن