المغتربون وسوء الفهم الاجتماعي: الغربة بين الغباء وسوء التقدير

المغترب، بحكم ابتعاده عن بيئته الأصلية لفترة طويلة، يواجه تحديات متعددة عندما يعود إلى مجتمعه، ومن أبرزها سوء فهم التوازنات الاجتماعية والتغييرات الطارئة في العلاقات بين الأفراد. كثيرًا ما يجد المغترب نفسه في مواقف محيرة، حيث يكتشف أن العلاقات التي كان يعتقد أنها قوية ومتينة قد تغيرت، أو أن الأشخاص الذين كانوا أصدقاء أو إخوة في الماضي أصبحوا متحفظين أو حتى متجنبين له.
الغربة وانقطاع المغترب عن تحولات المجتمع
الغربة ليست مجرد انتقال جسدي من بلد إلى آخر، بل هي أيضًا انقطاع عن التطورات والتغييرات الاجتماعية التي تطرأ داخل الوطن. المغترب يحتفظ بصورة ثابتة عن الأشخاص والعلاقات، ولكن الواقع في الوطن قد يكون مختلفًا تمامًا، حيث تشكلت حساسيات جديدة وتحالفات غير متوقعة وصراعات خفية لا يدركها العائد من غربته.
المغترب غالبًا ما يظن أن العلاقات التاريخية التي كانت تربطه ببعض الأشخاص لا تزال كما هي، لكنه يفاجأ بأن الأمور تغيرت جذريًا، ليس بالضرورة بسبب تقصير منه، بل لأن المجتمع تحرك وفق مصالحه وتبدلت الاصطفافات. وهذا هو مكمن "غبائه" - كما يراه البعض - أي اعتقاده بأن الأشياء تبقى على حالها رغم مرور الزمن.
حالة المغترب بين البراءة السياسية والتعقيد الاجتماعي
من أبرز مظاهر سوء الفهم لدى المغترب هو اعتقاده أن العلاقات الشخصية مبنية فقط على المشاعر والروابط القديمة، متجاهلًا أن هناك اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية تؤثر بشكل مباشر على طبيعة هذه العلاقات.
فالشخص الذي كان بالأمس أخًا عزيزًا قد يصبح اليوم متحفظًا أو متجنبًا لمجرد وجود طرف ثالث يحمل له حساسية أو عداوة. في بعض المجتمعات، يتم تجنب شخص ما ليس بسبب موقف شخصي منه، بل خوفًا من أن يُحسب هذا القرب موقفًا سياسيًا أو ولاءً غير مرغوب فيه. هذه الديناميكيات الدقيقة لا يفهمها المغترب بسهولة، مما يجعله يقع في صدمة اجتماعية عند عودته.
الصدمة الاجتماعية: عندما ينهار رصيد الثقة
يكتشف المغترب أن الثقة التي بناها في الماضي لم تعد كافية لاستمرار العلاقات، حيث تم تجاوزها بتراكمات جديدة من الصراعات والحساسيات التي لم يكن شاهدًا عليها. هذا الاكتشاف يولد لديه شعورًا بالغربة حتى داخل وطنه، حيث يصبح شخصًا لا يفهم "الشيفرة" الجديدة التي يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض.
أسوأ ما في الأمر أن المغترب يكون أحيانًا ضحية حسن النية، حيث يعبر عن مشاعره العفوية تجاه أشخاص كانوا مقربين منه في الماضي، لكنه يفاجأ بأنهم إما يتحاشونه أو يعاملونه ببرود، وكأن العلاقة القديمة لم تكن موجودة أبدًا. هذه المواقف تترك أثرًا نفسيًا عميقًا وتجعل المغترب يشعر بأنه غريب حتى بين أهله.
كيف يتجنب المغترب هذا الفخ؟
على المغتربين أن يكونوا أكثر وعيًا بأن الغربة لا تعني فقط البعد الجغرافي، بل تعني أيضًا الانقطاع عن التحولات الاجتماعية التي تجري داخل الوطن. ولتجنب الصدمات، عليهم أن:
1. يكونوا أكثر حذرًا في إعادة بناء العلاقات، وألا يفترضوا أن كل شيء كما تركوه.
2. يتجنبوا الاندفاع العاطفي في التعامل مع الأشخاص الذين كانوا مقربين في الماضي، حتى يختبروا حقيقة مواقفهم الجديدة.
3. يكونوا أكثر إدراكًا للحساسيات الجديدة والتوازنات الاجتماعية والسياسية قبل أن يورطوا أنفسهم في مواقف محرجة.
4. يبنوا علاقاتهم على الواقع الجديد وليس على الذكريات القديمة، فالزمن قد غيّر الجميع.
الخاتمة
الغربة لا تجعل المغترب غبيًا، لكنها تجعله منفصلًا عن المستجدات التي طرأت في مجتمعه أثناء غيابه. قد يكون حسن النية، لكنه يفتقر إلى إدراك "الكواليس" الجديدة التي تحكم العلاقات. على المغتربين أن يعوا هذه الحقيقة، وألا يسمحوا لعاطفتهم أن توقعهم في مواقف محرجة، بل أن يتعاملوا مع الأمور بعقلانية وحذر، لأن العالم يتغير، والناس تتغير، والماضي ليس بالضرورة ضمانًا للحاضر.
سيدي محمد ولد دباد مواطن موريتاني مقيم في فرنسا
16/02/2025