جولة في حياة الفقيد محمد ولد إبراهيم ولد السيد/ محمد فال ولد سيدي ميله
تمر اليوم الذكرى السنوية الأولى للخَطْب الجلل الذي ألمّ بموريتانيا عموما، وبولاية الترارزة خصوصا. إنه الرحيل الفجائي المؤلم للقامة الأمنية والسياسية والاجتماعية والأدبية السامقة: المفوض المتقاعد ورئيس جهة الترارزه، محمد ولد إبراهيم ولد السيد.
عندما عرفتُ محمد عن قرب، كان حينذاك على رأس المفوضية المركزية، وبالتالي مديرا لأمن منطقة نواكشوط. كنت قد كتبت في جريدة "المنبر" مقالا عن الانفلات الأمني في العاصمة، في أواسط التسعينات. بعد يوم من صدور المقال، بعث محمد شخصا يطلب مني لقاءً معه في مكتبه. جئت للموعد، فبادرني بقوله: "ما كتبتَه كذب، ومع أنه كذب فهو ثقيل وممل". إنه هجوم "مَحْصَري" كاسح من شخص لا أعرفه تمام المعرفة. لم تكن ثمة مقدمات لهذا الهجوم المباغت، فقط ابتسامات عجلى تعطي الانطباع بأنه يريد أن يختبر ردة فعلي، ويفهم طبيعتي، قبل أن يفتح معي صفحة من التعارف المرن بين "أخوين" لم يكن يربطهما أي رابط. اتضح لي من خلال تحاليله، التي لا تخلو من طرافة لتلطيف الجو، أن انتقاد الوضع الأمني في نواكشوط، في تلك الفترة، يعني الدخول في حملة ضد مدير الأمني الجهوي، لصالح مفوضين آخرين، وبالتالي فهو يعني الدخول في صراع خفي بين بعض الأجنحة الأمنية، وأن عليّ ألا أنجرف في تلك المتاهات، خاصة إذا كانت تعود بالضرر على أخ لي. كان المرحوم محمد يريدني أن أفهم عمق الموضوع، لأنه على يقين أنني لا أكتب أبدا بإملاء من أحد. طوينا صفحة الهجوم اللفظي البوليسي الشرس، وبدأنا صفحة من التآخي والاعتبار ظلت مفتوحة على مصراعيها إلى أن قدّر الله ما شاء في ذلك اليوم المنحوس، عندما توفي المفوض وزوجته الخلوقة أمنة بنت ابراهيم ولد السيد إثر حادث سير موجع.
قبل الخوض في حياة الفقيد، لابد من المرور، ما أمكن ذلك، على هذه السيدة الفاضلة من خلال والدها المرحوم أحمد الطلبه ولد إبراهيم ولد السيد، لنفهم السر في تميزها.
لقد رأيت المرحوم أحمد الطلبه عدة مرات في بتلميت. كان يزورنا، أحيانا، للاستراحة ذاهبا أو آئبا من نواكشوط إلى العصّابَه حيث يعمل قائدا جهويا لقطاع الدرك. كان مهيبا، يملأ بزته العسكرية بجلال يليق بعظماء الفرسان. وقضى الله في صِبايَ أنْ احتجْتُ إلى تشخيص في "طب الصين" بمدينة كيفه، فسافرتْ بي والدتي، المرحومة الزغمه، إلى هناك، وبديهي أننا أقمنا عند أسرة أهل أحمد الطلبه. خلال ذلك المقام، لم أبصره يوما من الأيام إلا متهللا، مبتسما، لطيفا وباشا في وجهيْنا، مقدما كل ما نحتاجه من قِرى وعون، إلى أن عدنا إلى بتلميت.
أتذكر أن المرحوم أحمد الطلبه اتخذ قرارا يوحي بقدر من الشجاعة والمروءة قلّ نظيره في الزمان الموريتاني المفعم بحب الجاه والمكانة والمال. فكثيرا ما تحدث الناس، سنة 1981، عن اعتذاره الشهير لحكومة العسكر عن قبول عضوية المحكمة المكلفة بمحاكمة عناصر انقلاب 16 مارس. لقد طُلب منه، كدركي سام وكضابط شرطة قضائية، أن يكون عضوا في تلك المحكمة، فرفض، مبررا رفضه بأن تلك المحكمة ستحاكم جماعة من ضمنها قريبه المقدم أحمد سالم ولد سيدي، وأن علاقته به تمنعه من إصدار حكم ضده، وأنه، بالتالي، يجد إحراجا كبيرا في تعيينه لهذه المهمة. وعلى هذا الأساس، طلب إعفاءه منها. وهو ما قبلته الحكومة بعد أن يئست من إمكانية مشاركته في "المهزلة".
ليست هذه الفقرة إلا للتأكيد أن المرحومة أمنة كانت شبلة من ذلك الأسد، وأن المرحوم محمد وُفق في اختيارها زوجة، لأنها ورثت من والدها الإباء والمروءة والنخوة وحسن الخلق.
إن الحديث عن الفقيد محمد يعني، بالنسبة لي، أن أتحدث عما لا يعرفه الكثيرون عنه. وبالتالي سأعرض صفحا عن التفاصيل المعروفة هناك وهناك. فقليلون هم من يعرفون أن دماءً أميرية آدرارية عَمّنية تجري في عروق هذا التروزي الشهم، سليل النسخة الأولى من إمارة "احْيَ من عثمان" المغفرية. تلك قصة أخرى لا وقت ولا جدوى من العودة إليها.
كان محمد متدينا لأقصى حد. وكثيرا ما كان يزور الإمام بداه ولد البصيري والعلامة محمد سالم ولد عدود طلبا للعلم وللفتوى. كما درس القرءان بعد تقاعده على يد الشيخ ولد بابه، عمدة المذرذره سابقا.
كان الفقيد جامعا لكل معاني الفتوة التقليدية: فهو حافظة للشعر العربي الفصيح، ومولع بالشعر الحساني، نقدًا وقرضاً.
كان الراحل يوزع، في مجلسه، القصص الأدبية والطرائف التاريخية والأمثال والحِكَم، فلا يَمَلُّ جليسُه أبدا. وعندما يلتئم المجلس، أيا كان، يكون محمد درته وواسطة عقده بسبب ما حباه الله به من القبول وحلاوة المنطق. كانت بزة الشرطة وقبعتها تخفيان فتى من طينة نادرة. لذلك وصفه ولد محمد آسكر في مرثيته له بأنه "تاج الترارزه". كما كانت فتوته تخفي وراءها بوليسيا وعسكريا استراتيجيا لا يبارى في التخطيط والتحليل والمبادرة. لذلك لم يقبل الرئيس السابق، معاويه ولد الطايع، تفويت فرصة وفاته، لتقديم واجب العزاء لأهله، فاتصل بابنه وطلب منه أن يوصله، عبر الهاتف، بالأخ الوحيد للفقيد وصديقه الأول أحمدُّ. وعندما أنهى الرئيس السابق مواساته في الفقيد والترحم عليه باسمه الشخصي، قال له: "محمد كانْ رجل دوله"، وكررها مرتين. ولعل ولد الطايع لم يتصل للتعزية في رحيل أي موريتاني قبل الفقيد محمد، أو نادرا ما اتصل حسب علمنا.
ولد الفقيد سنة 1954 عند اتفاشيت، شرقي نواكشوط.. وبدأ دراسته الابتدائية في مدرسة احسي المحصر، قرب المذرذره، سنة 1962، وأكملها في العاصمة.. دخل سلك الشرطة سنة 1974.. وحصل على تكوينين في فرنسا والولايات المتحدة في مجال الأمن العام والاستراتيجيات الأمنية.. والتحق بجامعة نواكشوط، وهو يعمل شرطيا، ليحصل منها على شهادة المتريز في القانون ضمن أول دفعة تتخرج منها.
وشغل الفقيد منصب مدير للأمن بمنطقة نواكشوط، ومدير أمن بانواذيبو.. ثم اختاره الرئيس معاويه ولد الطايع لمهمة استراتيجية في النيجر فعيّنه قنصلا عاما بانيامي.. وعند الإعلان عن زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك لموريتانيا، سنة 1997، استدعاه الرئيس إلى نواكشوط لأنه "أحوج إليه هنا" كما عبر له عن ذلك بصفة شخصية.. وبعد تقاعده، انتُخب أول رئيس لجهة الترارزه.
وهنا أغلِق القوسُ على حياة "رجل دولة" كما شهد به معاويه، و"تاج الترارزه" كما شهد به ولد محمد آسكر، وفتى أقرانه كما شهد به الأدباء، والعابد المنفق كما شهد به جوف الليل.. عليه من الرحمن وابل المغفرة وسحائب الرضوان.
محمد فال ولد سيدي ميله