الجمعة
2024/04/19
آخر تحديث
الجمعة 19 أبريل 2024

قصة حياة العلامة الفقيه الشيخ محمد الخضر الشنقيطي

12 مايو 2023 الساعة 09 و46 دقيقة
قصة حياة العلامة الفقيه الشيخ محمد الخضر الشنقيطي
طباعة

الشيخ محمد الخضر الشنقيطي، عالم مجاهد ومحدث وعلم من أعلام الأمة الإسلامية، كان واسع العلم غزير الإنتاج، كرّس حياته للقضاء والإفتاء والتأليف.

ولد بموريتانيا عام 1868، وهاجر إلى المغرب بعد سيطرة الفرنسيين، وصحب السلطان مولاي عبد الحفيظ، وتولّى إفتاء المالكية في المدينة المنورة، وحضر تأسيس دولة الأردن الحديثة، وشغل منصب الوزارة في أولى حكوماتها، وتوفي عام 1935.

المولد والنشأة
ولد محمد الخضر بن الشيخ سيدي عبد الله بن مايابى عام 1868، في قرية تكبة شمال مقاطعة تامشكط بولاية الحوض الغربي بموريتانيا.

عاش طفولته في مدينة تكبة التي كانت عامرة، وتعجّ بالعلماء وطلاب العلم، وتشتهر نساؤها بحفظ القرآن الكريم وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

وينتمي الشنقيطي لعائلة علمية ضاربة الجذور في العراقة المعرفية، تسمّى عائلة "آل مايابى" التي خرج منها عديد من العلماء، تجاوز عطاؤهم المعرفي المجال الموريتاني إلى المغرب والمشرق.

ونشأ في بيت أبيه الشيخ سيدي عبد الله بن مايابي، الذي كان قاضيا وقائما على مدينة تكبة التاريخية.

وكان والده من أبرز علماء عصره الذين جمعوا بين علم الشريعة وعلم التصوف، وله كثير من الأتباع وطلاب العلم، ويحظى بمكانة اجتماعية كبيرة، كما أن جده الفقيه سيدي أحمد اشتهر بالسخاء والإنفاق وقضاء حوائج الناس، حتى أطلق عليه لقب "مايابى" وصار علما لعائلته.

وبين إخوة يصل عددهم 18 عالما، و9 أخوات منهن العابدات الصالحات، والحافظات الفقيهات، نشأ الشيخ محمد الخضر وتربى على حب المعرفة ومنادمة الكتب.

الدراسة والتكوين
بدأ الشيخ محمد الخضر مسيرته الدراسية بحفظ القرآن الكريم في مدرسة والده وإخوته، فحفظه وهو ما يزال في السابعة من عمره، ودرس عددا من الكتب والمتون المتعلقة بعلوم القرآن، حتى أخذ الإجازة في القرآن الكريم متنا ورواية وضبطا قبل أن يتجاوز العاشرة من العمر.

وفي طفولته حفظ المعلقات السبع وكثيرا من الشعر الجاهلي، الذي ظلت بصمته حاضرة في شعره، كما حفظ المتون المتعلقة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتاريخ العرب وأنسابهم.

وعلى يد إخوته الكبار العلماء الشيخ سيد أحمد والشيخ محمد فاضل والشيخ محمد الكرّامي والشيخ محمد محمود؛ درس النحو والصرف وتعلم العروض وصناعة الشعر.

وعندما انتبه والده لنبوغه وذكائه أرسله إلى مدارس علمية متنوعة، فدرس على الشيخ سيدي محمد بن الأقظف الجكني، الذي أجازه أيضا في القرآن الكريم وعلومه.

ثم درس الفقه والأصول وعلوم الحديث ومصطلحه، في محضرة "أهل الطالب إبراهيم التاكاطيين"، وقرأ المنطق والأصول ومتون الحديث النبوي الشريف في مدرسة "أهل أحمد الهادي".

ثم توجه لأقصى الشمال الموريتاني بولاية إينشيري، حيث تقع محظرة "أهل محمد سالم"، المشهورة بالفقه والعناية بمختصر الشيخ خليل في المذهب المالكي.

وعندما حطّ الخضر رحله في هذه المدرسة شاع أمره بين الناس وذاع، حيث اكتُشِف أنه يحفظ 100 بيت من الشعر من سماعه مرة واحدة.

وخلال تنقله بين المدارس العلمية في القطر الشنقيطي، حفظ مختصر خليل وشروحه عن ظهر قلب، كما حفظ الموطأ وكتب الصحاح.

وبعد فترة وجيزة من إقامته في الشمال الموريتاني توجه نحوه طلاب العلم وتم تنصيبه للفتوى والقضاء بين الناس.

التوجه الفكري
تأثر الشيخ محمد الخضر بالمحيط العلمي الذي نشأ فيه، فقد كان والده عالما يفتي في المذاهب الفقهية الأربعة، وينتهج المسلك الصوفي الصافي من الشوائب والبدع، ويولي مكانة فائقة للمعرفة والتعليم، ويرى أن التربية الروحية لا يمكن أن يقوم بها إلا من كان عارفا بعلوم الشرع وملتزما بحدوده.

وعلى هذا التوجه سار الشيخ الخضر، واهتم بتصحيح مفاهيم التصوف ونادى بضرورة الالتزام بالكتاب والسنة، واعتبارهما قاعدة تأسيسية لمقام الإحسان.

وقد رأى أن كرامات الأولياء لا بد أن تكون لها حدود، كما أن العلاقة بين الكرامة والولاية ليست بالضرورة تلازمية، إذ المناط في كرامات الأولياء المعتبرة هو الاستقامة والالتزام بطريق الشريعة الإسلامية، والمحجة البيضاء التي رسمها رسول صلى الله عليه وسلم لأمته.

فكان مذهبه الصوفي يقتفي منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الاستقامة وتحكيم الشريعة في كل المجالات.

ويعتبر الشيخ محمد الخضر من أبرز العلماء الذين أخذوا على الطريقة التيجانية في موريتانيا وانتقدوها.

الجهاد والهجرة
وبعد دخول المستعمر الفرنسي لموريتانيا بداية القرن الـ20، كان الشيخ محمد الخضر على رأس العلماء الذين أفتوا بوجوب الجهاد، فخاض الكثير من المعارك الشرسة صحبة الأمير بكار ولد اسويد أحمد.

وعندما تمكّن الفرنسيون من بسط نفوذهم في البلاد، وعاين استضعافهم وإذلالهم للناس أفتى بوجوب الهجرة، فخرج للمغرب عام 1908، ومعه أخويه الشيخ محمد العاقب والشيخ محمد حبيب الله وكثيرون من طلابه، ونزلوا بالمغرب واستقبلهم السلطان مولاي عبد الحفيظ.

وبعد فترة من الإقامة في المغرب، توجه عام 1912 إلى ولاية الحجاز التي كان يحكمها الأشراف الهاشميون تحت راية الدولة العثمانية، ولاحقا توجه للأردن مع الأمير عبد الله الأول وحضر تأسيس إمارة شرقي الأردن عام 1921.

التجربة العلمية
في مرحلة مبكرة من عمره لفت الشيخ محمد الخضر أنظار الوسط المعرفي من حوله، فمارس التدريس والفتوى والقضاء وناظر العلماء وحرر النوازل وحلّ عويص العلم.

وعندما استدعاه الأمير بكار ولد اسويد أحمد ليكون قاضيا لإمارته عام 1898؛ زادت شهرته بين المجتمع الشنقيطي فقصده أهل المظالم وطلاب العلم من جميع القطر الموريتاني.

وعندما نزل على السلطان مولاي عبد الحفيظ سنة 1908؛ احتفى به وأعلى من شأنه وأسكنه في قصره، وهنالك التقى بعلماء فاس وشهدوا له بالعلم وأعطوه الأحقية في التصدّر، كما نسج علاقات عن طريق المساجلات والمراسلات مع الكثير من علماء مراكش.

وفي سنة 1913 نزل بالمدينة المنورة، واختير مفتيا للمذهب المالكي ومدرسا بالحرم النبوي فزادت شهرته بين الناس.

وفي سنة 1921 كلفه الملك عبد الله الأول منصبا وزاريا في أول حكومة عند تأسيس إمارة شرقيَ الأردن، وشغل الشنقيطي وزارة القضاء في أولى حكوماتها.

وبعدما أصبح قاضيا للقضاة في الأردن وطبعت الكثير من مؤلفاته، زادت شهرته في الأوساط المعرفية، فشغف به الناس ودُعي لإلقاء المحاضرات في كثير من الأقطار الإسلامية.

وخلال مسيرته التربوية زار عددا من بلدان العالم الإسلامي نشرا للعلم ومناظرة للعلماء، فقد نزل بالعراق ودول الخليج، ومكث فترة في حيدر آباد ومناطق أخرى بالهند.

وعندما زار القدس الشريف في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1934؛ توافد عليه العلماء واحتفوا به وألقى محاضرات علمية متنوعة، وأخذوا عنه بعض الأحاديث التي يرويها بالسند حتى رسول الله صلى الله وعليه وسلم.

وقد زار مدينة الخليل رفقة مفتي فلسطين حينها الحاج محمد أمين الحسيني، وخرجت جموع غفيرة من الناس في استقباله، وألقى فيها دروسا فقهية متعددة.

وفي بداية يناير/كانون الثاني 1935 زار القاهرة التي يسكنها شقيقه العلامة الشيخ محمد حبيب الله بن مايابى، الذي كان مدرّسا بالأزهر الشريف، واستقبله وزير الأوقاف المصري وأعيان العلماء الأزهريين.

واهتم الشيخ محمد الخضر في مسيرته العلمية بالحديث النبوي الشريف وتأصيل الفقه المالكي، وعمل على تصحيح العقائد والتصدي للحركات والمذاهب البدعية.

نموذج من شعره
وعلى الصعيد الأدبي اشتهر ابن مايابى بقرض الشعر وتوظيفه في تقريب العلوم وتوجيه المجتمع.

ومن جيد الشعر في الحنين إلى المدينة المنورة ومرابع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوله:

خليليّ هل إلى أحد عوْدُ وهل لي إلى سلعٍ وداراته ردُّ

وهل لي إلى سوق المناخة نظرة بها القلب يشفى بعدما شفّه الوجدُ

المؤلفات
ترك الشيخ محمد الخضر الكثير من المؤلفات التي أثْرت المكتبة الإسلامية وساعدت الباحثين وطلاب العلم من كل أنحاء العالم الإسلامي.

ومن أهم مؤلفاته التي طبعت:

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (كتاب فريد يقع في 14 مجلدا، وقد كتبت حوله الكثير من الأطاريح والرسائل الجامعية في المشرق والمغرب).
رسالة في وجوب الهجرة من البلاد المحتلة.
المعاني السواطع لشرح نظم جمع الجوامع للسلطان مولاي عبد الحفيظ.
إيضاح مختصر خليل، بالمذاهب الأربعة وأصح الدليل (حاول فيه تأصيل المذهب المالكي بالكتاب والسنة، وربطه بالمذاهب الفقهية الأخرى).
سلّم الأرواح والأشباح إلى نيل مقر السعادة والفلاح (كتاب يتكلم عن التصوف تطرق فيه للمذهب الصوفي الخالي من الشوائب).
إبرام النقض فيما قيل من أرجحية القبض (حاول من خلاله تأصيل السدل الذي اختاره الإمام مالك).
لزوم طلاق الثلاث دُفعة، بما لا يستطيع العالم دفعه (ألّفه في العراق، حيث كان بعض علماء بغداد وقتها يقولون إن الطلاق المتكرر دفعة يعتبر طلقة واحدة).
العوامل الشرطية لزكاة الأوراق البنكية.
رسالة في زكاة العروض والعملات العصرية.
قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في تقليد أئمة الاجتهاد.
الرسالة الحاوية لأحكام الخلافة والباغية.
مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني.
رسالة السيف والموسى في الذب عن البهتان على نبي الله عيسى.
استحالة المعية بالذات وما يضاهيها من متشابه الصفات (كتاب نفيس في التوحيد).

الوظائف والمسؤوليات
شغل الشيخ محمد الخضر خلال حياته الكثير من المناصب، رغم انشغاله بالتدريس والتأليف ومن أهم الوظائف الرسمية التي تولاها:

قاضي لمنطقة الشمال الموريتاني 1896.
قاضي لإمارة إدوعيش في الوسط الموريتاني في عهد الأمير بكار ولد اسويد أحمد 1899.
مدرس ومحاضر ومفتي ببلاط السلطان مولاي عبد الحفيظ بفاس في الفترة الممتدة بين 1908-1912.
مدرس بالحرم النبوي ومفتي للمالكية في المدينة المنورة سنة 1913.
وزير وقاض للقضاة في أول حكومة أردنية سنة 1921.
الجوائز والأوسمة
حصل على العديد من الأوسمة والميداليات من طرف السلطان مولاي عبد الحفيظ، ومن مملكة العراق وكذا دولة الأردن.

وتثمينا لدوره البارز في المملكة الأردنية الهاشمية، أطلقت الأردن شارعين رئيسيين في العاصمة عمّان أحدهما يحمل اسمه، والثاني يحمل اسم ولده الشيخ محمد الأمين، الذي شغل عدة وزارات في الحكومات الأردنية.

وبمناسبة مرور 100 عام على قيام الأردن سنة 2021، كرّمه الملك عبد الله الثاني بوسام شرف من الدرجة الأولى.

الوفاة
توفي الشيخ محمد الخضر يوم الاثنين 18 فبراير/شباط 1935، بالمدينة المنورة بعد وعكة صحية، ودفن بالبقيع.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية